هذه هي السنغال.. فمن أنتم؟!

بواسطة | مارس 31, 2024

بواسطة | مارس 31, 2024

هذه هي السنغال.. فمن أنتم؟!

قدرُنا أننا “وعينا” على الدنيا وإفريقيا بعيدة عن العين، وإن لم تكن بعيدة عن القلب، فمع تولي الرئيس مبارك السلطة، انسحبت مصر كلية من إفريقيا، وكأنها ليست الدائرة الثالثة ضمن دوائر انتمائها؛ فمصر دولة عربية تنتمي إلى الوطن العربي، وهي جزء من العالم الإسلامي، كما أنها دولة تقع في إفريقيا!

وإذا كانت معرفة البعض بإفريقيا لا تتعدى اهتماماته بكرة القدم، ووجود بعض الفرق الرياضية لبعض الدول تشارك في هذه المباريات أو تلك، فإن حدود علمنا بالسنغال لم يكن يتجاوز الرئيس عبده ضيوف، الذي تم تلخيصه في أنه الأطول من بين الرؤساء، وكنا في مرحلة الصبا عندما كان اهتمام الصحافة المصرية به من حيث إن القاهرة، العاصمة المضيف للقمة الإفريقية، صنعت له سريراً خاصاً في مقر إقامته بأحد الفنادق!

وعندما التحقت بالدراسات العليا بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، وجدت أنه ليس من المناسب أن أجهل موقع دول القارة، ومن هنا بحثت عن خريطة لها، وإن كنت لا أنكر أنني بحثت بعيداً مع أن هذه الخرائط قريبة مني، وأن أحد الباعة الجائلين يقوم ببيعها ضمن مبيعات أخرى على رصيف شارع طلعت حرب، الذي أسير فيه يومياً، ولمّا سألته عن درجة الاهتمام بها قال بأسى: لا أحد يهتم!

النهب الفرنسي:

لكن، هذه هي إفريقيا تفرض نفسها على الجميع فمن أنتم؟ جاء ذلك من خلال تحرك عدد من الدول فيها للتخلص من الهيمنة الفرنسية، كقوة احتلال تمارس النهب المنظم والعشوائي لمقدرات هذه الدول، وهو نشاط يحتاج لتسليط الضوء عليه، بعد أن أدخل بعض المثقفين العرب علينا الغش والتدليس عن بلد النور، الذي غادر مصر ومعه المدفع وترك لنا المطبعة (تركُه للمطبعة من باب الدعاية غير الدقيقة)، وقد رأينا فرنسا في قصة “الأيام” لطه حسين، التي كانت مقررة علينا دراسياً، فوقعنا في غرامها، ولا أخفي أنها ظلت لفترة طويلة من عمري (المديد بإذن الله) مطروحة على جدول أعمالي للسفر إليها، وهو ما كتبته في كتابي (لا أحد يكح في لندن)، وهو كتاب غير منشور، قلت فيه إن زيارة المملكة المتحدة لم تكن ضمن أحلامي، على العكس من باريس!

ما علينا، فالسنغال لم تعد فقط الرئيس عبده ضيوف، ولكنها صارت الدولة التي استطاع شعبها فرض إرادته ضد الاستبداد، فأثبت بنضاله أنه أمة وحده.. يتطلع الرأي العام إلى مجريات الانتخابات الرئاسية فيه، وإلى تجربته التي تستحق المشاهدة والتسجيل، وهو يجبر الرئيس الحالي على مغادرة الحكم، فتقطع المحكمة الدستورية عليه الطريق وهو يناور لمنع إجراء الانتخابات بدعوى ما أسماه بالأسباب الأمنية، لينجح مرشح المعارضة ويسقط مرشح الائتلاف الحاكم!

وقد أثبت الرئيس المنتهية ولايته أنه يتمتع برجاحة العقل، فقد فعل كل ما يستطيع للتنكيل بالمعارضة الجادة، لكنه وأمام إجباره من جانب الشعب، أقر بالنتيجة واستقبل الرئيس المنتخب في مقر الحكم، على وعد بالتعاون معه، فلم يمارس العناد كغيره لآخر نفس!

نضال الشعب:

ولم يكن طريق المعارضة إلى القصر الرئاسي مفروشاً بالورود، فقد خاضت معركتها ضد فساد السلطة، وهي تعلم أنها تواجه رئيساً تسبغ عليه فرنسا حمايتها، فلم تستسلم لسياسة الأمر الواقع، وكان عثمان سونكو (50 عاماً)، رئيس حزب باستيف، هو الزعيم الحقيقي الذي يقف على خط النار، فإذا بالنظام يلفق له اتهاماً يحط من القدر والاعتبار، من خلال ادعاء عاملة في مركز صحي بأنه تحرش بها وحاول اغتصابها، ورفض الشعب الاتهام وخرج إلى الشوارع لرفض هذا التلفيق لمعارض كشف فساد السلطة ورجالها وأذنابها!

فلما جاء موعد الاستحقاق الانتخابي، لم يتمكن عثمان سونكو من الترشح لمنصب رئيس الدولة لصدور أحكام ضده، فقدم رفيقه في النضال “باسيرو ديوماي ماي” ليحل محله في هذه المعركة، وهو الذي كان بدوره سجينا، ولم يخرج من محبسه إلا قبل عشرة أيام من إجراء الانتخابات التي أجريت يوم 24 مارس، وكان قد أودع السجن في مايو 2023 لحربه المعلنة ضد الفساد!. وكانت النتيجة فوز ديوماي من أول جولة وبأغلبية مريحة (54.28% من أصوات الناخبين)، في حين حصل “أمادو” مرشح الائتلاف الحاكم على35.79 في المئة!

وكانت البلاد قد شهدت حالة من الفوضى منذ عام 2021، وقد قاد حزب باستيف حركة الجماهير، وأعتقد أن هذا الحضور الشعبي هو الذي دفع بمؤسسة من مؤسسات الدولة، وهي المحكمة الدستورية، إلى أخذ زمام الأمر بيدها وتحديد موعد الانتخابات، فإرادة الشعوب غلابة، وهذه الفوضى لا ينبغي أن تكون سبباً في عدم اللجوء للانتخابات، ففي الاحتكام إلى إرادة الشعب ما ينهيها وهو ما حدث فعلا بتحديد موعدها، وبفوز مرشح الشعب، وباعتراف السلطة بهذه النتيجة!

الموقف من فرنسا:

لقد حرص الرئيس المنتخب (44 عاماً) عند مقابلته الرئيس المنتهية ولايته على ارتداء زي بلاده الشعبي، وهي رسالة لا تخطئ العين دلالتها، موجهة في المقام الأول إلى الاستعمار الفرنسي، وكان الأمر واضحاً وهو يذكر في خطابه عبارة “استعادة السيادة” مرات عدة، وعلى الفور أعلن الرئيس الفرنسي استعداد بلاده للتعاون معه!

فعندما يعقد الشعب أمره، فإن الهيمنة الغربية تتحول من الجبروت إلى عهن منفوش، وهي التي يعزز من غطرستها حكام يستمدون منها شرعية وجودهم، وإن نهبوا كل مقدرات هذه البلاد.. ففرنسا ليست أخطبوطاً، وإنما تستمد قوتها من هذا التواطؤ مع الحكام الخونة، حتى إذا دقت ساعة العمل الثوري تبين أنهما منهوك على منهوك!

لم تكن السياسة وحدها السبب في تغييب إفريقيا، ولكن كان معها الإعلام العربي أيضاً، فعندما انتبه العالم العربي إلى ما يحدث في السنغال وغيرها، لم يجد إعلاما يروي ظمأه بالمعرفة، وربما لم يكن الوقت مناسباً في السابق لحضور الإعلام العربي، لكن القارة في السنوات العشرة الأخيرة تبدو في حالة مخاض، كان يستوجب الانتباه الإعلامي له، ليكون شاهداً على ولادته، وستتكرر الولادة من بلد إلى بلد، ولن تقف عند السنغال التي تثبت تجربتها أن الأمل في حماية الشعوب لإرادتها عبر صناديق الانتخاب، وليس لترك الساحة للانقلابات العسكرية، التي تقود البلاد من سيئ إلى أسوأ.

لقد فرضت السنغال نفسها على العالم!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...