الأدب بين المتعة والحقيقة!

بواسطة | سبتمبر 30, 2023

بواسطة | سبتمبر 30, 2023

الأدب بين المتعة والحقيقة!

عن الحُبّ تحت فُوَّهات البنادق كتبتُ روايتي الأولى “نبض”؛ وكنتُ وما زلتُ كارها للحرب، ولكني أفهم هذا العالم جيدا، وأعرف أن وقوع الأشياء ليس مرهونا بمدى حبنا أو بغضنا لها.. ستقع أشياء كثيرة نكرهها، وستفوتنا أشياء كثيرة نحبها!.
وعلاقة الإنسان بهذه الحياة ليست علاقة حب، وإنما هي علاقة فهم العوامل المؤثرة فيها، والأشياء التي تحرّكها؛ إن أحببتَ الحياة فلن تتزوجها، وإن كرهتها فلن تطلّقها، أنتَ تخضع لها نهاية المطاف، بغضِّ النظر عن مشاعرك تجاهها؛ والعقلاء فيها يحاولون أن يكونوا لاعبين فيها، لا مجرد أوراق لعب! على أنّ الحرب التي أكرهها، أفهم تماما أنها قد تكون خيارا وحيدا للساسة أحيانا، ولو كنتُ أحدهم لربما خضتُها على مبدأ “مجبرٌ أخاكَ لا بطل”.
وبالعودة إلى رواية “نبض”.. كان عندي مشوار طويل رفقة زوجتي لزيارة أهلها في شمال لبنان، ونحن نسكن جنوبه، فأخذتْ زوجتي الرواية معها لتقرأها في الطريق. قرأتْ جزءا منها في طريق الذهاب، وكانت سعيدة بالأحداث، وتخبرني أنها أحبّتْ البطلة كثيرا، وأن الحوارات بينها وبين حبيبها ذكية وممتعة؛ وفي طريق العودة كانت تكمل ما تبقى لها من فصول.. بينما كنتُ أنا أقود السيارة وأُردد أذكار المساء، شيء من الصمت كان مخيما، قطعه صوتها الممزوج بالأسى: كنتُ أعرف أنكَ ستقتلها!
نظرتُ إليها فإذا عيناها ممتلئتان بالدموع، وملامح الحزن بادية على وجهها، كأني قتلت “نبض” في الواقع بإطلاق النار على رأسها، ولم أقتلها على الورق فقط!. قلتُ لها يومذاك: كان بإمكاني أن أُغيّر الأحداث، وأصنع نهاية سعيدة، أزُفُّ بها نبض إلى حبيبها، ولكنكِ لن تكرهي الحربَ كما جعلتُكِ تكرهينها الآن.. أما دموعكِ، وإن كانت عزيزة عليَّ، فتعني أني نجحتُ ببلوغ هدفي!. لقد جعلتُ “نبض” صديقتكِ، وجعلتُكِ تُحبّينها كبعض أهلكِ، ثم قتلتها فأحزنتُكِ؛ أنا روائي أقيمُ الجنائز حيث يجب، ولست صاحب قاعة أفراح، ولا أكترث إن لم يتزوج الأبطال في نهاية الرواية، ما دام كثير من العشاق لا يتزوجون لأن الحرب تسرق من الناس أحبابهم.
منذ قرابة شهر طلبتْ مني أن أُرشّح لها رواية لتقرأها، رشّحتُ لها رواية “الساعة الخامسة والعشرون” للكاتب “قسطنطين جيورجيو”.. كنتُ كل يوم أجلس لأكتب على الشرفة، فتجلس بجواري تقرأ الرواية، وكل مرّة تقرأُ فيها تخبرني أن الرواية ليست جميلة، إنها مليئة بالمواقف القاسية، والشخصيات الظالمة!. وكنتُ كل مرّة أطلب منها أن تكمل الرواية، فأكملتْها لا من باب المتعة، وإنما من باب الفضول لتعرف ما الذي سيحدث. وبعد أن انتهت منها كتبتْ في صفحتها في الفيسبوك أن الرواية لم تعجبها، للأسباب التي كانت تذكرها لي سابقا، أنها مليئة بالظلم، والقسوة، والفقد، والقتل!.
بالمناسبة، الرواية جميلة جدا، ولكن الحياة أحياناً قبيحة؛ والحبكة الروائية فيها مُذهلة، غير أن الحياة أكثر غرابة!. تسلسل الأحداث فيها مشوّق، حتى وإن كنا نعرف تلك الحقبة من الزمن، وما دار قبل وبعد دخول الحلفاء إلى ألمانيا.
كل ما في الأمر أن في الدنيا أشخاصا خيّرين كزوجتي، يكرهون أن يروا الظلم، والفقر، والمعاناة، وإن سلموا هم منها! وزوجتي من الرِّقة بمكان أنها تسعد بخبر زواج حبيبة بحبيبها، ولو كانا في الهند؛ ولا تحتمل أن ترى مشاهد الموت، ولو ِلقطّة دُهست في الشارع!
أنا وإن كنتُ الشطر الآخر منها، فكل حبيبين حبّة، إلا أنني أفهم جيدا أن الحياة معترك، وأن الأدب ليست وظيفته جلب المتعة بقدر ما هي كشف الحقيقة، والحقيقة دوماً مؤلمة!.
وظيفة الروائي أن يضع يده على الجرح وإن كان هذا يُحدِث ألما، وأن يُعرّي البشاعة وإن بدا الأمر سوداويّا! الأدب نهاية المطاف فعل إيقاظ الناس، لا حقنهم بإبر مُخدِّرة، والروائيّ البارع هو الذي يجعلك تحب بعض شخصيات روايته، ويجعلك تكره بعضهم أيضا! ومتى فعل ذلك فقد نجح في عمل أدبيّ يضجّ بالحياة!.
قال لي صديق مرَّة: أكره جدا أدوار “محمود المليجي” إنه يُقدِّم شخصيات شريرة بلا رحمة.. فقلتُ له: هذا يعني أنه ممثل بارع، وأنه نجح في إيصال الرسالة الذي تم بناء هذه الشخصية لأجلها!.

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...