كي لا يضع التعاطف مع غزة هباءً

بقلم: جعفر عباس

| 17 يناير, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: جعفر عباس

| 17 يناير, 2024

كي لا يضع التعاطف مع غزة هباءً

تناقش هذه المقالة تغيرات في توجهات الرأي العام الغربي نحو القضية الفلسطينية بعد العدوان الإسرائيلي، مع رصد استمرار التحديات السياسية والثقافية التي تواجهها فلسطين.

صمود غزة – تحوّلات في تأييد الحق الفلسطيني وتحديات التحالفات الدولية

عاد صمود فلسطينيي غزة في وجه العدوان الإسرائيلي الغاشم، بمكاسب معنوية هائلة على القضية الفلسطينية..

فلأول مرة منذ ما ينيف على سبعة عقود، صار الرأي العام الغربي منحازا بوضوح للحق الفلسطيني، وأكثر جرأة في رفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، غير عابئ باتهام معاداة السامية، الذي يتم إشهاره في وجه كل من ينتقد إسرائيل، بل ارتفعت أصوات جسورة تتساءل: كيف يكون انتقاد إسرائيل أو إنكار المحرقة اليهودية معاداة للسامية، بينما حرق المصاحف ونشر رسومات تسيء إلى نبي الإسلام عليه السلام “حرية تعبير”؟ يحصل هذا في حين أنه قبل سنوات ليست بالبعيدة قال أستاذ جامعي نيوزيلندي، إن ضحايا المحرقة مليونان ونصف المليون، وليس أكثر من ثلاثة ملايين كما هو رائج، فما كان من حكومة بلاده إلا أن سحبت منه كافة شهاداته الجامعية وما فوق الجامعية.

وفي الولايات المتحدة، حيث ظلت الحكومات المتعاقبة تساند جرائم إسرائيل، انبرت شخصيات ذات وزن معنوي عالٍ لاستنكار العدوان على غزة، وإدانة جيش الاحتلال بلغة صريحة وقوية، ومن بين تلك الشخصيات رئيسة جامعة هارفارد، ورئيسة معهد ماشاسوستس للتكنولوجيا، وهناك الآلاف ممن يُسمَّون بنجوم المجتمع الأمريكي صاروا يجاهرون بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية، دون الخضوع للترهيب من تهمة معاداة السامية؛ وحقيقة الأمر هي أن موقف النقابات المهنية والعمالية في الدول الغربية، الرافض لسياسات إسرائيل حتى قبل الحرب الأخيرة على غزة، أقوى من موقف منظمة التحرير، التي أعلنتها ” ثورة حتى النصر”، وأنشأت جهاز البوساد في مواجهة الموساد.

بل إن نقابة أساتذة الجامعات في بريطانيا ما زالت – ومنذ سنوات- تقاطع الجامعات الإسرائيلية مقاطعة ناجزة كاملة، بينما لا يستطيع المواطنون في بعض الدول العربية الجهر بمعاداتهم للسياسات الأمريكية وللصهيونية.

للبروفيسور أندور ويلكي، المحاضر في جامعة أكسفورد العريقة، إنجازات معترف بها عالميا في مجال أمراض الدم، وأقام الدنيا وأقعدها عندما رفض طلبا من طالب اسمه أميت دوفاشاني مبتعث من جامعة تل أبيب، كان يريد التحضير للدكتوراه تحت إشرافه، ورفض البروفيسور ويلكي طلبه ورد عليه بكل وضوح: لا أستطيع أن أقبل بك ضمن طلابي، لأنه يصعب عليَّ قبول طالب إسرائيلي سبق له أداء الخدمة العسكرية؛ والإسرائيليون استثمروا معاناتهم خلال المحرقة النازية، ويواصلون البكاء على ضحاياهم، بينما ينتهكون حقوق الفلسطينيين بصورة فظة، فقط لأنهم – أي الفلسطينيين- يريدون العيش في وطنهم، ومن ثم فضميري لا يسمح لي بالتعامل معك، لكونك خضعت للتجنيد الإجباري في إسرائيل”.. وهكذا قامت قيامة صحف اليمين البريطاني، ونهشت لحم البروفيسور ويلكي متهمة إياه بمعاداة السامية، وضغطت جامعة أوكسفورد على ويلكي كي يغير موقفه ويقبل الطالب الإسرائيلي، ولكنه اختار تقديم استقالته على القيام بأمر لا يرضاه ضميره، فلم تجد إدارة الجامعة بُدّا من رفض الاستقالة، والدفاع عن حق ويلكي في اتخاذ قرار استنادا إلى اعتبارات سياسية وإنسانية.

ناطوري كارتا حركة يهودية تم تأسيسها في سنة 1935، وهي تعارض الصهيونية بكافة أشكالها، وتنادي بإزالة دولة إسرائيل وإعادة الأرض إلى الفلسطينيين؛ ويركز أتباع هذا المذهب على الأدب الحاخامي الذي ينص على أن اليهود – وبسبب خطاياهم- تم طردهم من أرض إسرائيل، وعليه فإن أي محاولة لاسترداد أرض إسرائيل بالقوة هي “مخالفة للإرادة الإلهية”، بل إن زعيم الطائفة، الحاخام موشيه هيرش، قبِل أن يكون وزير الشؤون الدينية في الحكومة التي شكلها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في عام 1995، معلنا أن عرفات هو القائد الشرعي والقانوني لدولة فلسطين، والتي تشمل ما يعرف بـ”دولة إسرائيل.”

شهدتُ في العام 2017 جانبا من مهرجان أدنبره الثقافي في اسكتلندا، وكنت ضيفا على عرض مسرحي لطالبات من مدرسة ثانوية في بيت لحم، وقام النص المسرحي على يوميات الطالبات خلال ما يسمى بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكان العرض برعاية كاملة من طائفة الكويكرز، وهم جماعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في القرن السابع عشر، وبعد تعرُّض أتباعها لاضطهاد منهجي في أوروبا هاجروا أفواجا إلى ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة، وهناك أعداد كبيرة منهم في بريطانيا وشرق أفريقيا.. وعندما جاءت لحظة التعقيب على المسرحية، انبرى قساوسة من الكويكرز لشرح أبعاد القضية الفلسطينية، وبيان أن الصهاينة سرقوا أرضا لا تخصهم من “أرض المسيح”.

والشاهد هنا، هو أن عملية طوفان الأقصى وذيولها أدت إلى اتساع رقعة التعاطف الدولي مع الحقوق الفلسطينية، ولكن في غياب كيان أو كيانات عربية أو فلسطينية تتواصل مع الشخصيات العامة والأجسام الثقافية والدينية والسياسية الغربية، التي كانت ولا تزال تؤيد تلك الحقوق، ومرد ذلك أن العرب الرسميين تركوا مثل تلك الأمور في يد منظمة التحرير الفلسطينية، ذلك الكيان المترهل الذي كشف اتفاق أوسلو- مدريد عواره، وذلك تأسيا بحكم صلاة الجنازة “إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين”.

وعليه، فإن المطلوب اليوم هو استثمار مناخ التعاطف الكاسح مع أهل غزة، لبناء جسور مع مختلف الشخصيات والكيانات الرافضة للبغي الصهيوني، والمنافحة عن حق إنسان فلسطين في العيش آمنا في وطنه التاريخي، كي لا يقال إن العرب “في الشتاء ضيعوا اللبن”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...