الشهيد الساجد

بواسطة | يناير 2, 2024

بواسطة | يناير 2, 2024

الشهيد الساجد

تميزت غزة بشهدائها البواسل الذين قدموا أرواحهم فداءً لأرضهم وعزتهم. يعكس هذا المقال حكاية الشهيد تيسير أبو طعيمة واللحظات البطولية التي عاشها، فكيف كان يواجه تحديات الحياة والموت بروح الصمود والتضحية؟

تيسير أبو طعيمة: صورة بطولية تحفز على التضحية والصمود في وجه الظلم

بسمته الساحرة، نظرته العميقة، روحه المُحلّقة، وعيناه الصافيتان كأن نهرًا أشهب من أنهار الجنة يملؤهما، ثُمّ تلك السجدة الأخيرة التي أظهرت خارطة الدم على هذا الجسد الطاهر، ثم تلك الروح التي في حواصل الطير، تصعد إلى السماء… مشهد لن تجده إلا في غزّة، مشهد يمكن أن يكون خيالا، أو مقطعًا من فيلم سينمائيّ؛ لكنه كان حقيقيًّا، وكان طريقةً مُثلى في العُروج إلى الخلود.

أراد أعداؤه أن يقتلوه لكنه قتلهم، أرادوا له الموت لكنهم وهبوه الحياة، أرادوا له الفناء لكنهم منحوه الخلود… كانت سجدته على الأرض التي أنبتته تقول: نحن الباقون وأنتم الزائلون، نحن أهلها وبنوها وأنتم الطارئون، نحن نبتُ الرُّبا والغَمام فيها، وأنتم نبتٌ هجينٌ غريبٌ، ستلفظكم الحقول والطيور والرياحين من بلادنا.. نحن الذين نتشبّث بترابها المُقدّس، وأنتم الراحلون، أنتم تطيرون خوفًا مع أول هيعة حرب، ونحن نطير فرحًا بلقاء الله في هذه الشهادة؛ حين تقطعون حبل الحياة من أجسادنا وأرواحنا وأشلائنا نكون على موعدٍ تائقٍ مع الله انتظرناه، ويا لَطول ما انتظرناه! ويا لَشَدِّ ما هتفنا: واشوقاه… واشوقاه… غدًا نلقى الأحبّة… محمّدًا وصَحبه.

إنه البطل تيسير أبو طعيمة، كانت طائرات الصهاينة الغاشمة تُصوّره من برجها العالي، تريد أن تقول للعالَم: إننا قادرون على قتل هؤلاء الذين وقفوا في وجهنا، ونقنصهم من بين الدُّور والحواري والأزقّة، وسنصل إلى أخفاكم وأبعدكم… أرادت بذلك أن تُرعِب أهل غزّة خاصّة والعالم عامة، فقدّمتْ أجمل مشهدٍ يمكن أن يحثّ الشباب على الإقدام، ويبعث فيهم حُبّ الشهادة من جديد، ويؤسّس لهم معالم الطّريق في هذا الصراع الطويل الذي لا ينتهي حتى يزول آخر مُحتلّ، ويرحل آخر صهيوني عن هذه البلاد الطاهرة.

لستم أيها الصهاينة أوّل الطغاة الذين يفعلون ذلك بأولياء الله، من قبلُ فعلها فرعون، أقسمَ حين آمن السحرة: {لأُقطِّعنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلافٍ ثمَّ لأُصلِّبنَّكُم أجمعين}، فردّوا عليه: {ربَّنا أفْرِغ علينا صبرًا وتوفَّنا مسلمين}.. وفعل، قَتَلَهم من أجل أن يستأصل روح الإيمان التي سرتْ في قلوبهم، فكان تخويفه إياهم بالقتل سببًا في إيمانهم، وانقلاب الناس على الطاغية، وسحْب بساط القوة والمُلك من تحت قدميه.

فعلها – كذلك – الملك الظالم في قصة أصحاب الأخدود، حين قال له الغلام المؤمن بعد أن حاول مرّاتٍ كثيرةً أن يقتله فلم يُفلِح: “إِنك لستَ بقاتلي؛ حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبُني على جذع، ثم خُذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبِد القوس، ثم قل: بِاسْم الله، رَبّ الغلام، ثم ارْمِني، فإنّكَ إذا فعلتَ ذلك قتلتني، فجمع الناسَ في صعيدٍ واحد، وصَلَبه على جِذْع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبِد القوس، ثم قال: بِاسْمِ اللّه، رَبّ الغلام، ثم رماه”. فلما قتله آمن الجمع كلُّه حين شهد ذلك، فانقلب السِّحر على الساحر، ودالت دولة الطغيان.

إن الموت ليس النهاية، بل إنه يبدو في القصتين البداية، البداية لتحرير العقول والأجساد من رِبقة الخوف، وتحريرها من رِبقة الظلم، ثُم انهيار مملكة الظلم والاستبداد هذه… وهذا ما سيحدث في قِصّتنا البطولية هذه إن شاء الله.

نعم، استُشهِد البطل تيسير أبو طعيمة مُقدِمًا غير مُدبر، كانتْ سجدتُه في مماته كسجدته في حياته، لقاءً بالله، شوقًا إلى رضوانه… رسَم بالدَّمِ الزّكيّ على جسده خارطة فلسطين، ليرسم بها خارطة الطريق للأجيال من بعده، كانت هذه وصيّته الأخيرة:

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ .. فَمِن العار أن تموتَ جبانا

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...