العَين بِالعَين

بقلم: أيمن العتوم

| 9 أكتوبر, 2023

بقلم: أيمن العتوم

| 9 أكتوبر, 2023

العَين بِالعَين

يبحث المرء في بحر اليأس الطامي عن فسحة أمل، وفي زمن الهزائم العاصفة عن فُرجة نصر.. وقد فطر الله الناس على الحرية؛ فولدتْهم أمهاتهم أحرارا، وعلى نبذ الظّلم؛ فلا يقبل بالظّلم أحد إلا ما كان فاقدا الإحساس، جمادا لا قلب له، أو دابّة لا عقل لها، ولذا قال المُتلمّس الضبعي:
ولن يـقـيم على خَسْـف يُـرادُ به .. إلا الأَذَلّان عَـيْـرُ الـحَيّ والـوتِدُ
هذا على الخسف مربوط برُمَّته .. وذا يُـشــجُّ فـما يـرثـي لـه أَحـدُ
وبعض العدل يستوجبُ السيف.. وكيف كان يمكن أن يُحَقَّ الحق، وتقوم له قائمة إذا لم يُجالِد صاحبُه من أجله ويجاهد: {ولولا دفْعُ اللَّهِ النّاسَ بعضَهم ببعضٍ لهُدِّمتْ صوامع وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكر فيها اسم اللَّه كثيرًا ولَينصرنَّ اللَّهُ من ينصرُه إنَّ اللَّهَ لَقويٌّ عزيزٌ}.
وفي غزّة التي ظُلمتْ، وأُريدتْ على الهوان، وحُوصرت، وجُوِّعتْ، ترى الوجه الجليّ لهذه المُدافَعة؛ وتعرفُ أنّ من أراد أن يُغيّر مجرى النهر، ويُميل إليه وجه العالم ليرى ما يصنع، ويصُكَّه على وجهه ليرهف سمعه بعد أن كان لا يكيل له بصاع، ولا يُعيره أيّ اهتمام، مُقتدرٌ على ذلك أيّما اقتدار. وإنّ أول النصر المُباغَتة، وإن أول النهر قطرة، وإن أول الربيع زهرة، ثم ينداح الطوفان، وينتشر الشذى؛ وخير الشذى ما سقاه الدم في الأرض الطهور.  
قِيل للوفد الذي جاء لتُفاوضَه أمريكا على معاهدة سلام بين الدولتين: “لماذا تحملون أسلحتكم إلى قاعة المفاوضات؟ اتركوها في الخارج”؛ فردّ عليهم رئيس الوفد المُقاوِم: “إنكم لولا هذا السلاح لما جلستم على هذه الطاولة”.. تلك هي الحقيقة، لولا القوة التي تفرض واقعا جديدا، أو على الأقل تُغيّر منه، لَما رمقَك أحدٌ ولو بطرف عينه، وقد ورد هذا المعنى في رواية حديث الجنود، على لسان (وصفي) أحد أبطال الرواية، حين قال: “نحن لا نحمي أنفسنا من السلطة بحسن الظن في ديمقراطيتها؛ في العالم كله لا يوجد إلا نوع واحد من الديمقراطية: إنها ديمقراطية البنادق؛ حين يتخلّى الحق عن القوة يجترئ عليه كل باطل؛ إذا أردتَ أن يظلّ الحق واقفا على قدمين فضَعْ على كتفه بندقية”.
الشعوب تنتصر بروح المقاومة التي تسري في أجساد أصغرهم قبل أكبرهم، وفي عَزَماتِ نسائهم قبل رجالهم؛ لو أن هذه الروح انكسرتْ فإن الدبابات والمدرعات والبارجات لن تستطيع منع الهزيمة؛ وإن ترنيمة النصر لدى الشعوب المُقاومة: “لا يأس، لا استسلام”، وفي فهمها: “إذا قتلوا منّا قتلْنا منهم، وإذا حرقوا مزارعنا حرقْنا عليهم مُستوطناتِهم، وإذا قصفوا شيوخنا وعجائزنا قصفْنا عليهم مواقعهم العسكرية”.. إن توازن الرعب مطلوب لدى الشعوب التي لا تريد أن تموت، وهو توزانٌ يمكن أن يتحقّق بأقلّ تكلفة ما دامت وراءَه روح وثّابة؛ فَعَلَها من قبلُ أبو بصير حين كان يقطع القوافل على تجارة قريش.
وقصته باختصار، أنه –رضي الله عنه- جاء إلى المدينة المنورة بعد فترة وجيزة من صلح الحديبية، وكان يريد أن ينضمّ إلى المسلمين فرارا بدينه من أهل الكفر بمكة، ولكن قريشًا أرسلت في طلبه رجلين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا له: “العهدَ الذي جعلْتَ لنا”. فدفعه إلى الرجلين، وتسلّماه بالفعل، وفي الطريق إلى مكة استطاع أن يحتال عليهما، فقتل واحدا منهما، وفَرَّ الآخر! دخل الرجل المشرك المسجد النبوي يَعْدو، فلمَّا رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشفق عليه، وقال: “لقد رأى هذا ذعرًا”. فلمَّا انتهى الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “قُتل صاحبي، وإني لمقتول!”. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد -والله- أوفى الله ذمتك، قد رَدَدْتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ويلَ أُمِّه! مِسْعر حرب لو كان له أحَد”.
وخرج أبو بصير من المدينة وحده، حتى أتى منطقة سِيف البحر، وعسكر هناك، وبدأ يقطع الطريق على قوافل قريش، وقريش لا تقدر عليه. كان فردا، يملك سيفا واحدا أمام قريشٍ وقوافلها، وكتائبها المدجّجة بالسلاح، ومَنْ غَبَر وَعَبر؛ ومع ذلك قَلَبَ المعادلة بفرديّته وإمكاناته المحدودة، لتمزّق حالتُه هذه المعاهدة القديمة، وتُنشِئ معاهدة يكون الطرفُ المُجالِدُ قادرا على فرض شروطه فيها؛ وهذا ما تفعله المقاومة في فلسطين اليوم.. إنها بإمكاناتها التي لا تُقارَن بإمكانات عدوها، تستطيع أن تقضّ مضجعه، وتقلب عليه الطاولة، وتُرغِمه إلى أنْ يبلّ أوراق معاهداته ويشرب ماءها؛ بل وتُحرِج كل من جعل التطبيع مع العدوّ الغاصب هدفَه، وبذل ما يملك وما لا يملك من أجل ذلك.
إنها حقيقة واحدة.. لن تتحرّر الأوطان بالاتفاقيات، ولن تُستعاد المُقدّسات بالمفاوضات، إنما بالقوة لدى شاكي السلاح، وهذه الحقيقة لا تخص زمنا دون زمن، ولا شعبا دون شعب، ولا عقيدة دون عقيدة، بل قال التاريخ: إنها صالحة لكل أمّة ولكل مِلّة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

لا تتركوا جبل المحامل وحده في الطوفان

كثيرًا ما أمعنت النظر صغيرًا في لوحة زيتية كانت تزين صالون بيت جدي، تتوسطها صورة رجل طاعن في السن والتعب، يحمل القدس على ظهره مربوطة بحبل الشقاء على جبينه ويمشي حافيًا في صحراء من الرفاق. وكبيرًا عرفت أنها لوحة "جبل المحامل" للفنان سليمان منصور، وهي ترمز إلى الشعب...

قراءة المزيد
ذلك يوم عزَّ فيه العرب

ذلك يوم عزَّ فيه العرب

" ذلك يوم عز فيه العرب".. هكذا جاءت في المرويات عن النبي الأكرم ﷺ مقولته، عندما ذُكرت أمامه معركة ذي قار التي قادها العرب في جاهليتهم ضد القوات الساسانية الفارسية، وكان النصر فيها من نصيب العرب. وكأن النبي الأعظم يشير- والله أعلم- إلى مفهوم السيادة والحرية لدى العرب،...

قراءة المزيد
Loading...