المقاومة في الضفة وإسرائيل: قواعد اشتباك جديدة

بقلم: الدكتور صالح  النعامي

| 27 يونيو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: الدكتور صالح  النعامي

| 27 يونيو, 2023

المقاومة في الضفة وإسرائيل: قواعد اشتباك جديدة

على الرغم من أن إسرائيل عرضت استخدامها طائرة مسيرة في تصفية خليلة فلسطينية شمال الضفة الغربية الأسبوع الماضي على أساس أنه يشي باستعدادها لتوظيف كل ما لديها من أدوات بهدف القضاء على بنى المقاومة هناك، إلا أن هذا التطور تحديدا دلل على المعضلة التي بات يواجهها جيش الاحتلال.
فعلى الرغم من أن إسرائيل تستخدم المسيرات في تنفيذ عمليات الاغتيال في قطاع غزة بشكل متواصل منذ عقدين من الزمان، إلا أن هذه كانت المرة الأولى منذ 17 عاما، التي يستخدم فيها جيش الاحتلال مسيرة في تنفيذ عملية اغتيال في الضفة الغربية؛ فقد حرصت إسرائيل منذ العام 2005 على تنفيذ عمليات الاغتيال في الضفة الغربية عبر استخدام قوات خاصة تتوغل في عمق المدن والبلدات، وتستهدف المقاومين الفلسطينيين المرشحين للتصفية عبر إطلاق النار بعد مداهمة منازلهم والأماكن التي يتحصنون بها.

ما تشهده الضفة الغربية حاليا، يدل على تراجع قدرة إسرائيل على مواصلة ممارسة آليات العمل هذه؛ فقد أثبتت الأحداث الأخيرة انضمام المزيد من القطاعات الجماهيرية الفلسطينية إلى الحالة المقاومة

لكن المواجهة الأخيرة في جنين، وما أظهرته المقاومة الفلسطينية من قدرات عسكرية متطورة ومستويات قتالية كبيرة، أقنعت قيادة جيش الاحتلال والمستوى السياسي في تل أبيب بأن شن عمليات برية في عمق المدن الفلسطينية، وتحديدا في شمال الضفة الغربية، بات ينطوي على مخاطر كبيرة على القوات المقتحمة وأنه من الأفضل التوجه إلى استخدام سلاح الجو، وتحديدا المسيرات، في تنفيذ المزيد من المهام العسكرية لتقليص هذه المخاطر.
إن اللجوء مجددا إلى استخدام سلاح الجو في تنفيذ العمليات العسكرية في الضفة الغربية يمثل مؤشرا على فشل إستراتيجية “جز العشب”، التي شرع جيش الاحتلال في تبنيها في مواجهة المقاومة الفلسطينية منذ العام 2005؛ وتقوم هذه الإستراتيجية على محاولة تجفيف بيئة المقاومة من خلال ثلاث آليات عمل متداخلة: السيطرة على المدنيين الفلسطينيين في مدن وبلدات ومخيمات اللاجئين في أرجاء الضفة، وضمان الفصل بينهم وبين قوى المقاومة، وفي الوقت ذاته منح جيش الاحتلال حرية مطلقة للعمل العسكري في المنطقة.
وما تشهده الضفة الغربية حاليا، يدل على تراجع قدرة إسرائيل على مواصلة ممارسة آليات العمل هذه؛ فقد أثبتت الأحداث الأخيرة انضمام المزيد من القطاعات الجماهيرية الفلسطينية إلى الحالة المقاومة، ليس فقط ردا على الاعتداءات التي ينفذها جيش الاحتلال في عمق الأراضي الفلسطينية، بل أيضا كرد على الجرائم التي ينفذها المستوطنون اليهود ضدهم.
وقد تراجعت قدرة جيش الاحتلال على العمل بريا في عمق المدن الفلسطينية بفعل تطور إمكانات المقاومة العسكرية، وتحديدا على صعيد حجم قوة النيران التي باتت تستخدمها في التصدي لقواته المقتحمة، سيما عبر استخدام العبوات الناسفة الجانبية المحكمة، التي أدت إلى إعطاب ست من ناقلات الجند من الأكثر تحصينا، التي يستخدمها جيش الاحتلال خلال الاقتحام لمنطقة جنين. وقد فاقمت قدرات المقاومة المتطورة من حجم المخاطر التي بات يتعرض لها الجنود المشاركون في عمليات الاقتحام.
ومما لا شك فيه أن قطاعات المقاومة في منطق جنين أظهرت أيضا قدرات تنظيمية فائقة، قامت على الارتكاز على قيادة موحدة لجبهات القتال، تعززها منظومات تحكم وسيطرة أسهمت في استنفاذ الطاقة الكامنة في مجاميع المقاومة داخل جنين ومخيمها، وهو ما قلص من قدرة جيش الاحتلال على تحقيق أهدافه من عمليات الاقتحام.
إلى جانب ذلك، فقد أظهر المقاومون مستويات جرأة عالية جدا، دلل عليها حرصهم على الاشتباك المباشر مع القوات المقتحمة رغم ميل موازين القوى لصالحها، ما أربك حسابات جيش الاحتلال.

يعد ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع قدرتها على العمل، تحديدا في شمال الضفة الغربية، أحد العوامل المؤثرة على استقرار قواعد الاشتباك الجديدة بين المقاومة والاحتلال

إن اضطرار جيش الاحتلال لاستخدام سلاح الطيران في تنفيذ عملياته العسكرية في الضفة الغربية، وتجنب العمليات البرية، يعد تحولا واضحا في قواعد الاشتباك فرضته المقاومة الفلسطينية، وليس نتاج مبادرة أقدم عليها جيش الاحتلال.
صحيح، يمكن لجيش الاحتلال أن يستأنف مستقبلا شن عمليات برية في عمق المدن الفلسطينية، تحت تأثير ضغط أحزاب اليمين الديني المتطرف داخل حكومة بنيامين نتنياهو، لكن هذا إن تم سيكون بشكل محدود ولطمأنة الرأي العام الإسرائيلي أن هذا الجيش لا يتراجع في مواجهة الفعل الفلسطيني المقاوم.
وضمن قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها المقاومة زيادة عمليات إطلاق النار ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، وقد شهدت عمليات إطلاق النار التي تنفذها المقاومة تحولين أساسيين؛ فهذه العمليات باتت أكثر فتكا، كما عكست ذلك عملية إطلاق النار في مستوطنة “عيلي” شمال رام الله، مطلع الأسبوع الماضي، كما برز دور التنظيمات الفلسطينية الكبيرة في تنفيذها. فقد وقفت حركة حماس خلف عملية “عيلي”، في حين تدعي إسرائيل أن قيادتي الحركة في كل من غزة والخارج تعكفان على توجيه وتمويل عمليات المقاومة في الضفة.
ويعد ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع قدرتها على العمل، تحديدا في شمال الضفة الغربية، أحد العوامل المؤثرة على استقرار قواعد الاشتباك الجديدة بين المقاومة والاحتلال؛ فتراجع مكانة ونفوذ السلطة الفلسطينية سيجعل إسرائيل تخسر عوائد التعاون الأمني الذي كانت تعكف عليه أجهزة السلطة الأمنية، ما يفاقم الأعباء على كاهل جيش الاحتلال وأجهزته الاستخبارية والأمنية.
ويعد مصير السلطة الفلسطينية أحد أهم المحددات التي تحكم السلوك العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية؛ حيث إن تل أبيب تخشى أن تسهم عمليات عسكرية واسعة في أرجاء الضفة الغربية في انهيار السلطة تماما. ويعد سيناريو انهيار السلطة كابوسا لإسرائيل، ليس فقط لأنها ستخسر عوائد التعاون الأمني، بل أيضا لأنها ستبرز كقوة احتلال مباشر، ما سيفرض عليها توفير الخدمات التي كان يضمنها وجود السلطة، مثل التعليم، الصحة، …الخ، في وقت تعاني فيه من أزمة اقتصادية خانقة.
في الوقت ذاته، فإن قرارات إسرائيل المتعلقة ببناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات، وغضها الطرف عن تدشين المستوطنين البؤر الاستيطانية حتى بدون الرجوع إلى حكومة تل أبيب، فضلا عن الاعتداءات الوحشية التي ينفذها عناصر التنظيمات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين، يقلص من قدرة إسرائيل على توفير شرعية دولية لعملياتها العسكرية في أرجاء الضفة الغربية.
لكن نجاح المقاومة في فرض قواعد اشتباك جديدة تخدم مصالحها، لا يكفي لمراكمة إنجازات طويلة الأمد على صعيد ردع إسرائيل عن مواصلة عدوانها على الأرض والإنسان وفرملة مشروعها الاستيطاني الإحلالي؛ بل إن الأمر يتطلب من الفلسطينيين التوافق بشكل عاجل على برنامج وطني شامل يضمن توسيع وسائل المقاومة، وتحديدا اعتماد المقاومة الشعبية كمركب رئيس ضمن هذه الوسائل؛ فالتوافق على هذا البرنامج يعد مطلبا رئيسا لضمان تحويل أداء المقاومة إلى إنجازات سياسية ملموسة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...