عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 27 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 27 يوليو, 2024
عباس محمود العقاد.. ساعات بين الكتب
كنتُ أهاتف الشيخ عبد الوهاب الطريري ونتحدث عن الكتب وشؤون المطابع وقصص من حياة المؤلفين.. والنقاش مع الشيخ الطريري ممتع ومفيد ومليء بالفوائد، فهو يتذوق القصة الجميلة، ويطرب للعبارة الحلوة، ويتأمل في حياة المؤلفين والكُتَّاب، وكمْ حدَّثني عن مقالات الزيَّات وعصر مجلة “الرسالة”.
وصل الحديث بنا إلى عباس محمود العقاد، وأخذ الشيخ الطريري يحدثني عن عودته إلى كتاب “في بيتي” للعقاد، ورأى بعد قراءته إيَّاه أنه كان أقل مما يتوقعه من قلم لمثل العقاد!. وعندما قال لي هذه العبارة تذكرت على الفور أن هذا الأمر كتب عنه ماهر شفيق فريد، وعن زهده في كتابات العقاد مع كبر سنِّه، فلم تعد تثير ذهنه.
وتحضرني هنا طرفة قرأتها في كتاب “الناطق الأخرس”، رواها كامل الشناوي، يقول: “لمَّا سُئل العقاد عن رأيه في صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب، قال: لا عيب فيه إلا إعجاب أحمد شوقي به!”.
إقليم أسوان برواية العقاد
ولد عباس محمود العقاد في أسوان، وعاش فيها طفولته، وذكرها في سيرته الذاتية “أنا”.. ورغم أنه وُلد عام 1889م، فإنه يقدم صورة للمدينة تقربها لنا، فهي مدينة يلتقي فيها التجديد مع روح القديم، روح أسوان الحديثة التي نشأ فيها العقاد، التي تعلَّم من عراقتها وقدمها، مع حداثتها النسبية بسبب قدوم الأجانب إليها وتحولها إلى مدينة أوروبية في الشتاء. يقول العقاد: “أوروبا كلها كانت تتراءى هناك.. كل شيء.. بملاهيها، وأزيائها، وعادتها، ومؤلفاتها، وفنونها، واختلاف أقوامها”، حتى إن أحد السيَّاح الأجانب أهدى العقاد ترجمة للقرآن الكريم، وكتاب توماس كارلايل عن الثورة الفرنسية؛ وكان والد العقاد أمينًا للمحفوظات بإقليم أسوان.
العقاد والطريري.. ما عرفت ومَن عرفت
يحكي لنا الشيخ عبد الوهاب الطريري في مذكراته “سماء الذاكرة” أخبارًا جميلة عمَّن تعرَّف إليهم، فقد تعرَّف جلال أحمد أمين من خلال كتابه “ماذا علمتني الحياة”، ووصفها بـ”السيرة الذاتية الرائعة”، وحرص الطريري على زيارة جلال أمين حين جاء إلى مصر، وتحدث جلال معهم بأريحيه.. وعند وصف حالة جيلهم عند السفر إلى الغرب طلابًا، وما إن كانت النقلة صادمة، قال لهم جلال: جيلنا مثّله الطيب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”.
وتحدث جلال عن والده، وأنه كان يحب الوحدة والتأمل، لذا كانت الأسرة إذا سافرت إلى الإسكندرية ركب وحده في الدرجة الأولى، وركبت الأسرة جميعًا مع الأم في الدرجة الثانية.
وذكر لهم جلال أمين أن العقاد أهدى إلى أبيه أحد كتبه، وكتب في إهدائه: “إلى الأستاذ المؤرخ أحمد أمين”، وأن أباه امتعض لهذا الإهداء، وقال: هو يقول “المؤرخ” لأنه لا يريد أن يقول “الأديب”.
ثم وجد الشيخ الطريري في كلام حسين أحمد أمين تكملة لهذا الخبر، وهي أن العقاد قد قالها بعد ذلك حين أصدر أحمد أمين سيرته في كتابه “حياتي”، فقال متحدثًا عن أبيه: “وما زلت أذكر بشيء من العجب والإشفاق كيف أبهجه أشد البهجة أن يتحول العقاد إلى الاعتراف به أديبًا بعد صدور كتابه (حياتي)، بعد أن ظل دومًا قبلها يصر على وصفه بالبحَّاثة المؤرخ العالم”.
ويحكي الشيخ الطريري أنه لفت نظره في بيت طه حسين مكتبه ومكتبته، وعجب من قلة الكتب التي لم تملؤها، ولو ملأتْها ما كانت كثيرة، إنها مكتبة أديب وليست مكتبة عالم، ورأى الطريري مجلس طه حسين الذي يعقد فيه ندوته كل أحد، فإذا هي مقاعد معدودة، فتوقع أنها مجلس رفقة، وليست ندوة مفتوحة كندوة العقاد.
وزار الطريري بيت العقاد الذي جعل منه رواية في كتابه “في بيتي” يقول عنه: “كأنما كنا نسكن معه فيه، فوجدته مأهولًا بأسرته وبنات أخيه، وما زالت اللوحة التي تحمل اسمه على بابه، فدخلنا صالونه الذي كان يعقد فيه ندوته، وصنع منه أنيس منصور عالَمَ ملحمته (في صالون العقاد كانت لنا أيام).. رأيت المكتب كما كان، والمقاعد كما كانت، والغرفة الصغيرة التي تسمى صالونًا، وكيف كانت تتسع لكل رواد الندوة”.
ويحكي لنا الشيخ عبد الوهاب الطريري في مذكراته أنه قرأ مقالة للأديب إبراهيم أصلان عن لقائه العقاد، وكانت مقالة طويلة لذيذة، خلاصتها أنه رأى العقاد في زحام شارع سليمان باشا، ورآه من الخلف، ويحسب الطريري أنه لولا طول قامة العقاد ما رآه، فهو لم يرَ وجهه ولم يسمع كلامه.
هذا ذكرني بحكايات الروائية رضوى عاشور، التي ولدت عام 1946 في بيت يقع على النيل في جزيرة منيل الروضة، وقضت طفولتها المبكرة في شقة بالمنطقة ذاتها، تطل شرفتها على كوبري عباس، الذي فتحته قوات الشرطة قبل ولادة رضوى عاشور بثلاثة أشهر على الطلبة المتظاهرين، فحاصرتهم عليه بين نيرانها والماء.
كانت رضوى طالبة في المرحلة الثانوية، ودعت مدرستها الكاتب محمود تيمور مرة وبِنْت الشاطئ مرة، واستمعت إلى حديث كل منهما وحاورتهما، والتقت رضوى مصادفةً في إحدى مكتبات القاهرة العقاد، فصافحته وهو طبعًا لا يعرفها، وبدت لها تلك اللقاءات مثيرة وباهرة، ليس لأنها كانت معجبة بهذا الكاتب أو تلك الكاتبة تحديدًا، ولكن لأن فعل الكتابة كان يُضفي هالةً على صاحبه، فلا تملك -في تلك السن- إلا التوقف مأخوذة.
في السابعة عشرة من عمر رضوى التحقت بكلية الآداب، وهنا توقفت عن الكتابة والخربشات التي تدونها لأنه وقع لها حادث مؤسف، حسم الأمر لسنوات طوال تالية: قرأتْ رضوى القصص القصيرة للأديب الروسي تشيكوف، وكأنما سقط حجر عليها ودهمتها سيارة فتركتها معوقة الحركة، وجدت رضوى أنه من المعيب أن تسمي ما تكتبه قصصًا، وأنه لا يصح ولا يجوز أن تواصل، قررت التوقف، وجاء قرارها قاطعًا كمقصلة، تُلح الكتابة عليها فتقمعها، تكتب صفحات وتمزقها، وتكرر على نفسها: لستِ كاتبةً، فلماذا سلوك الأغبياء؟!
جبروت العقاد
عودة إلى الحديث عن العقاد، فقد كان من أجرأ كُتّاب السياسة، قال رئيس الوزراء محمد محمود باشا إنه سيحكم البلد بيدٍ من حديد، فكتب العقاد يسخر منه: “لمن تكون هذه اليد المستعارة في ذراع محمد محمود باشا؟ للإنجليز إن شاء الباشا، وهو لا بد يشاء هذه السُّمعة، لأنه يريد الإرهاب، والناس لا يرهبونه، وهو أعزل من الأمة، ومن قوة الشخصية ومن قوة الإنجليز. ولكن الإنجليز لا يركّبون يدَهم الحديد في ذراع من جريد، فلا نظنها إلا يدًا ستُبتر عما قريب”.
ونشرت الصحف أن ابن رئيس الوزراء، إسماعيل صدقي، سافر لمشاهدة خزَّان أسوان على نفقة الدولة، وعللت الحكومة بأنه مهندس، فكتب العقاد مقالًا بعنوان “بسلامته مهندس”.. يسخر فيه من رئيس الوزراء وابنه.
وقال في البرلمان: “ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن نسحق أكبر رأس في البلاد لصيانة الدستور وحمايته”، ورغم أن هذه العبارة حُذفت من مضبطة الجلسة بناء على طلب أحمد ماهر، فإنَّ جريدتَي “السياسة” و”المقطم”، استغلتا العبارة، وقامت عليه صحف الحكومة، وقيل: ماذا يقصد العقاد بأكبر رأس؟ فردَّ عليهم بمقال: أجل، نسحق أكبر رأس.. وسُجن العقاد بعدها تسعة أشهر، وكتب بعد خروجه أبياتًا جميلة يقول فيها:
وكنتُ جَنـينَ السِّـجنِ تسـعةَ أشـهُرٍ
فهَـا أنَا ذَا في سـاحةِ الـخُـلـْدِ أُولَــدُ
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم
سـيـعـهدني كـل كـمـا كـان يـعـهـد
والعقاد رفع بترفُّعه وكبريائه مكانة الأدب والصحافة، وينبهنا عباس خضر في مذكراته إلى أن “العقاد جعل للأديب في نفوس الكبراء منزلةً، تنسخ الصورة التي ارتسمت للأديب بأنه يعيش على هامش الحياة، ويمكن شراء مدائحه نظمًا ونثرًا.. بل إنه رفع قيمة الصحافة، فقد ذكر أحد الوزراء، ردًّا على سؤال أحد النواب، أن هذا (كلام جرايد)، فاحتج العقاد في البرلمان، وقال إن للصحافة شأنًا في البلاد المتقدمة مثل إنجلترا، وإن مستر ماكدونالد رئيس الوزراء البريطاني يذهب إلى الصحف ليشترك في تحريرها”.
ويحكي لنا لويس عوض في مذكراته “أوراق العمر” أنه وهو فتى كان يوقّع مقالاته بعنوان “العقاد الصغير”، وكان لويس لا يفوِّت قراءة مقالات العقاد التي تندد بالدكتاتورية والدفاع عن الحرية والدستور والحياة النيابية، وكانت تلك القراءة تُلهب عواطف لويس عوض السياسية، وكان لا يتردد في إدانة هؤلاء الباشاوات بالخيانة، وبالتسابق لإرضاء الإنجليز.
وزار لويس عوض بيت العقاد وهو حاصل على الثانوية العامة، يريد الالتحاق بدراسة الأدب، وتحدث معه العقاد في كل شيء.. في المتنبي والمعري، وفي داروين ونيتشه، وفي هازليت وإمرسون، وفي شيلي وبَيرون. وكان لاذعًا في أكثر ما يقول، وهذا يذكّر بعبارة قالها توفيق الحكيم عن العقاد: إنه عندما يكتب على سجيته يكون ظريفًا.
ونجد أثر هذه الروح المتمردة عند لويس عوض وهو طالب في الجامعة، يناقش أستاذه كريستوف عن اتفاقية 1936 بين مصر وبريطانيا، قال له الأستاذ الإنجليزي: عشر سنوات وسنخرج من مصر، ردَّ لويس عوض بـ “إنكم تكذبون”، فقال له الأستاذ: سنخرج، ولو استمر الإنجليز ستكون خطيئة ضد الروح القُدُس، فردَّ لويس عوض بصوت من الخَيْشوم (شَخَر له).
وعلى الرغم من اعتراضات لويس عوض لاحقًا على فكر العقاد، فإنه لم يهاجمه في شيء وفاءً منه للرجل الذي بلور إحساسه الوطني وعقيدة الديمقراطية وبغض استبداد الملوك والوزراء. ويقول لويس عوض في مذكراته: “قد أُتيح لي أن أقرأ كتاب أنيس منصور الذي صدر في الثمانينيات عن (صالون العقاد)، وكدت أطلبه في التليفون لأقول له إن هذا الكتاب لا يكتبه إلا أكبر عدو للعقاد”.
“فالعقاد فيه لا يفتح فاه إلا ليسُبَّ كاتبًا أو ليعرض بأديب، وهو لم يترك رجلًا من معاصريه إلا ومزَّقه، ثم عُدتُ بذاكرتي إلى الماضي واستحضرتُ جو الصالون فتذكرت أنه كان شبيهًا بما روى أنيس منصور، وربما تصوَّر أنيس منصور أنه بوزويل يكتب (سيرة صمويل جونسون)، ولكن شتان ما بين النقد الساخر والسخرية الناقدة”.
كاتب العبقريات والإسلام
يحكي حسين أحمد أمين في كتابه “شخصيات عرفتها” أنه كثيرًا ما كان يرى العقاد داخلًا إلى مكتبة الأنجلو المصرية، التي كانت تنشر كتبه، بقامته العملاقة المهيبة وطربوشه وكوفيّته الطويلة الشهيرة، ليسارع موظفوها إلى استقباله بحفاوة بالغة، فيبادر بسؤال أحدهم بصوته الضخم: “فين سيدك الحمار؟!”.. فيهرع صاحب المكتبة إليه منحنيًا على يده ليقبلها، ثم يأتيه بكرسيٍّ يجلس عليه، وبكوب من القرفة يحتسيه، وبالكتب الحديثة مما ورد إلى المكتبة حتى يتصفحها وينتقي منها ما يحب، وهي المكتبة نفسها التي كانت جماهير القراء تصطف في طابور طويل أمامها، قبل أن تفتح أبوابها بنصف ساعة أو ساعة، يوم عرض نُسخ من كتاب جديد صادر له.
ويحكي حسين أنه تلقَّى اتصالًا من العقاد يسأله فيه عن والده، فقال حسين للعقاد: لقد فرغت لتوي من قراءة عبقرية عمر، فيرد العقاد: كم سنك يا جحش؟ فيقول له حسين: تسعة أعوام، فيعقب العقاد: غير ممكن أن تفهمها في هذا العمر، ويستمر الجدل حتى يقول له العقاد: غير متفرغ لك، نادِ لي أباك!
قال حسين أحمد أمين في ترجمته للعقاد في كتابه “شخصيات عرفتها”: “ما يحيرني من العقاد هو موقفه من الإسلام، فهو في مجالسه الخاصة وندواته الأسبوعية التي حرصتُ على حضور بعضها، كان يبدو صريح الإلحاد، صريح الاستخفاف بالعقائد، وقد تبدر منه فيها من التعابير ما يصدم مشاعر بعض جُلاّسه… ومع ذلك فما أكثر ما كتبه من كتب ومقالات في نصرة الإسلام والطعن على المستشرقين الطاعنين فيه، بل والتهجم على أقباط مصر، كما في المقالات التي كتبها لصحيفة (الدستور) عامَي 1908 و1909م، وهو لا يزال دون العشرين.
ثم العبقريات المشهورة التي بدأت بعبقرية محمد عام 1942م – أثر العرب في الحضارة الأوربية – الفلسفة القرآنية – الديمقراطية في الإسلام – فاطمة الزهراء – بلال – أبو الأنبياء الخليل إبراهيم – الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله – مطلع النور وطوالع البعثة المحمدية – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه – التفكير فريضة إسلامية – المرأة في القرآن الكريم – الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين – الإنسان في القرآن الكريم – ما يقال عن الإسلام – الإسلام دعوة عالمية… مثل هذا الكم الضخم دليل على عمق انشغال فكر الرجل بالإسلام، وربما على إخلاصه في الإيمان به، وامتعاضه من أي مساس به يأتي من الغرب ومستشرقيه. وهو كمٌّ لا يمكن الاقتصار في تفسيره على القول بأن الثلاثينيات (عقب الأزمة الاقتصادية العالمية التي مسّت آثارها مصر، وعقب اشتداد ساعد جماعة الإخوان المسلمين وانتشار تأثيرها) شهدت تحولًا ملحوظًا من جانب عدد كبير من الكُتَّاب في مصر إلى الكتابة عن الإسلام، تطلُّعًا إلى مزيد من الشعبية والرواج لكتبهم، ومزيد من العائد المادي”.
ويحكي عباس خضر في ذكرياته الأدبية طرفًا من هذا البُعد في شخصية العقاد، فقد كان عباس خضر يزور مكتب العقاد في إدارة جريدة روز اليوسف، وكان المكتب أقرب إلى ندوة حافلة بالمؤيدين والمتظاهرين بالتأييد، يجلجل فيها صوت العقاد بالشتائم التي لا يستطيع كتابتها بحكم القانون أو الآداب العامة أو المعتقدات الدينية، ويذكر خضر قولة للعقاد قالها فصكت الأسماع: “أنا.. أنا اللي باشتم ربنا… أغلب في الولدين دول؟!”.. والولدان هما مصطفى النحاس ومكرم عبيد، وذلك في أثناء معركة بين العقاد وحزب الوفد.
هل نتخيل هذه الأيام أن العقاد كتب في عدد 17 أكتوبر 1935 في مجلة روز اليوسف عن مكرم عبيد: “الدجَّال البهلوان المأفون المأفوك المغرض الكذاب المخبول المحتال الجبان الذليل الوصولي المنافق الوغد الذي لا يصل إلى موطئ النعال المهرج الخسيس الحقود”…
ونجح الوفد في إغلاق الجريدة، ودفع العقاد أجر جميع العاملين في الجريدة عند توقفها، وأصبح في حالة مالية سيئة لم تمنعه من أن يعطي الطالب طاهر أبو فاشا -وكان من تلاميذه ومريديه- خمسين نسخة من كتاب العقاد عن سعد زغلول لكي يبيعها للطلبة، ويعود بثمنها على المؤلف، وباعها أبو فاشا، وقد تأخر المصروف الذي كان يأتي طاهر من والده من دمياط، فاضطر إلى إنفاق ثمن النسخ، ومكث مدة طويلة محرجًا لا يذهب إلى العقاد، ومصادفة رآه العقاد في الطريق، فحاول أبو فاشا أن يزوغ، ولكن العقاد بادره قائلًا: تعالَ يا مولانا.. أنت فين؟. وتلجلج أبو فاشا حائرًا خجِلًا، فقال العقاد: “لا لا، مسألة الكتاب مش مهمة”.
وهنا تحضرني طرفة، فقد كان طاهر أبو فاشا ينام في بيت الأديب عباس خضر، ويأتي بالكتب الضخمة ويضعها تحت المخدة الرقيقة البالية لإعلائها، ومرة قال له عباس: خذ شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، إنه كبير وينفع في تعلية رأسك، فقال: لا، أبعده عني، إن فيه الأخفش، وأخشى أن يطلع لي في المنام!. والأخفش أحد علماء النحو.
قارئ شامخ
تبقى صورة العقاد في ذهني أنه قارئ من كبار قرَّاء العربية في القرن الماضي، وقد انتقلت إلى عصر العقاد، بفضل كتاب مقدمات العقاد من جمع الدكتور عبد الرحمن قائد، وعشت الجو الأدبي لهذا العصر، وقرأت عن الكتب التي تحمس لها حتى يكتب مقدمة، وعاتبت نفسي على هجري قلم العقاد، وافتتاني بقلم صديقه المازني، وفي هذه المقدمات سيرة من سِير القراءة، فقد قدَّم العقاد لـ99 كتابًا في مواضيع منوعة. شكرًا لعبد الرحمن قائد على هذا الوفاء.. لاحظ صديقي المتبحر في عالم العقاد كيف اختلفت لغة العقاد مع مرور السنوات، لقد اقتربت في سنواته الأخيرة من لغة الصحافة السهلة اليسيرة على عكس مقدماته الأولى الأكثر بلاغة.
تلزمنا عودة لتشريح عصر العقاد، فأنا أرى أن فتحي رضوان في كتابه “عصر ورجال” قد وضع يده على أحد عيوب الثقافة في زمن مصر بين الثورتين، حينما قال:
“أول ما يستوقف النظر أن إنتاجهم كان جزئيًّا لا يتكامل، لم يجرؤ أحدهم في الغالب على إخراج كتاب إلا بعد تقدم العمر، وأكثر ما أخرجوه مجموع مقالات. ولم يكن تأليف الكتب بطريق تجميع المقالات مجرد مرحلة من مراحل الحياة الفكرية لهؤلاء الكُتَّاب، بل صفة من صفاتهم العقلية، تكشف عن طبيعة تكوينهم، وعن حدود قدراتهم؛ فقد كانوا في البداية عاجزين عن أن تكون لهم نظرة شاملة لأمر من الأمور السياسية والفكرية، كان الأمر عندهم تنقلًا بين الشخصيات والأفكار والكتب، وكان ما يصدر عنهم انطباعات سريعة من قراءات لا تستولي عليهم، ولا تملأ حياتهم ولا وجدانهم. وما من شيء تأثر في حياتهم، تغيّر بتغيّر موضوع دراستهم وكتابتهم؛ فالكتابة عندهم لم تكن معاناة روحية، ولم تكن إعلانًا عن إيمان وعقيدة، وقد عجَّل هذا التحلل الروحي بنهاية هذا العهد، وبالكارثة التي ختم بها”…
ولفتحي رضوان صلة بالعقاد ومعاشرة له، وبعد أن حكى عن مجلسه وحياته في كتابه الرائع “عصر ورجال” قدَّم في فقرة لفتت انتباهي وعدت إليها اليوم، يقول رضوان: “يجدر بي أن أقول إن طول اتصالي بالعقاد على مدى الأعوام، وفي أكثر من حالة، كشف لي في العقاد سذاجة في شؤون السياسة، وفي شؤون الدنيا كافة، إلى ما يشبه بساطة الأطفال”. ثم حكى عدة مواقف للعقاد يؤكد به بعضًا من هذا الصفاء الطفولي في العمل السياسي!
الشاهد أن علوّ قدم العقاد في أمور الفكر والقراءة لم يُعفِه من أن يلاحظ أحدهم بعضًا من سذاجته، واجتماع هذا الأمر يجب أن يكون في أذهاننا ونحن نتعامل مع المؤلفين المفضلين لنا.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
جميل جدا .. شكرا على المقالة الرائعة