بنو تميم أعجوبة بين قبائل العرب لمن قرأ وعرف وتمعن جيدا في طبيعة القوى القبلية، ومدى تأثيرها في المشهد السياسي الإسلامي؛ فهذه القبيلة لها من النفوذ والتأثير الشيء العجيب، ففيها المناصرون للدعوة المحمدية وفيها المناوئون، وفيها أهل الغلظة والشدة وفيها أهل الحلم والأناة، كذلك فيها من بلغ الرشد في الفكر والعلم القويم وفيها من تاه في التطرف الفكري، وما سار أبناؤها في طريق من طرق السلوك البشري إلا أخذوا مداه وبالغوا في التوغل إلى نهايته. فمن درس سير أعلامهم ورموزهم، سواء اتفق معهم أم اختلف، فإنه يخال ويظن أنه يدرس العرب جميعا!.
ولعلنا هنا نعرج على سيرة رجل من بني تميم، رجل من رجالات الدولة والأمة والسياسة، رجل اجتمعت على حبه العامة والخاصة، يهابه الملوك والرؤساء، ویأنس به العبيد والغلمان والبسطاء، وذلك هو الضحاك، وقيل صخر، المشهور بالأحنف بن قيس التميمي.

ذُكر في صفاته وحلمه وطبائعه الكثير من الأخبار؛ ومن أقواله: “وجدت الحلم أنفع لي من الرجال”

ولد الأحنف قبل الهجرة بعشرين عاما في البصرة، في أحد مضارب بني تميم، وأدرك زمن النبوة ولم ير النبي ﷺ، فهو مخضرم، والمخضرمون هم من أدركوا زمن النبوة ولم يحظوا بالصحبة وشرفها. قال عنه الذهبي: (الأحنف يُضرب بعلمه وسؤدده المثل، هو الأمير أبو بحر والعالم النبيل).
ذُكر في صفاته وحلمه وطبائعه الكثير من الأخبار؛ ومن أقواله: “وجدت الحلم أنفع لي من الرجال”، وقال أيضا: “ومن لم يصبر على كلمة سمع كلمات”، وقال عن العفو: “ليس فضل الحلم أن تُظلم وتصبر حتى إذا قدرت انتقمت، ولكنه العفو عند المقدر ة”. ومن مقولاته عن خصال السيادة: “من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع: من كان له دين يحجزه، وحسب يصونه، وعقل يرشده، وحياء يمنعه.
يهمنا هنا فهم التصور السياسي لطبيعة النظام، ولإدارة الصراعات والنزاعات في عمق الدولة الإسلامية الناشئة، في ذهن وعقلية الأحنف بن قيس التميمي.
كان له تصور لضرورة فتح الإقليم العراقي، وتحريره من الهيمنة الفارسية، وإيجاد نوع من التحرر للقبائل العربية في العراق، وتكوين سلطة ذات سيادة؛ وظهرت مشاركته الفعالة في الحروب التي شنتها القوى الإسلامية السياسية، ضمن سلسلة الفتوحات العسكرية ضد الكيانات الفارسية في الإقليم العراقي ثم في بقية الرقعة الجغرافية الفارسية. فمشاركته في قوات للدعم السريع تم توجيهها لإنقاذ القائد العلاء بن الحضري كانت أولى مشاركاته، وكانت دعوته لبني عمومته من بني تميم لتسجيل موقف إيجابي في الفتوحات الإسلامية لمسح الصورة النمطية التي تكونت في أذهان العرب، والتي لحقت ببني تميم بعد خضوعهم لسجاح التميمية التي ادعت النبوة واتبعوها، ثم ما لبثوا أن عادوا لبيعة السلطة الإسلامية الشرعية في المدينة.
وقد أمر عمر بن الخطاب القادة العسكريين المسلمين بجعل الأحنف مستشارا “استراتيجيا”، يؤخذ برأيه في المعارك والتحركات العسكرية، ووضع الخطط الميدانية، فكان من ذلك أن وضع تصوراته وخططه لفتح مدينة تستر، ومدينة نهاوند، وقم الإيرانية، وكذلك خراسان.
وعلى صعيد الصراعات الداخلية والنزاعات الأهلية داخل منظومة الدولة الإسلامية، نجد أن الأحنف كان يميل إلى الوضوح البين في إبداء الرأي والوجهة السياسية، والبعد تماما عن “البراغماتية” السياسية والسبل الملتوية والميكيافيلية، في التعامل مع خصومه السياسيين. وكلمته في ذلك مشهورة في كتب الأدب والتاريخ عندما قال: “أنا رجل أخاف الله إن كذبت، وأخافكم ان صدقت”.

كانت شخصية الأحنف بن قيس التميمي جذابة للسلطات والحكومات، ومرغوبة للملوك والرؤساء؛ فقد حاول بنو الزبير مرارا وتكرارا، في سلطتهم ودولتهم الجديدة في مكة، أن يستميلوه ما استطاعوا

فقد ناقش الأحنف في مناظراته وجلساته كلاً من فريق السيدة المبجلة عائشة والإمام علي بن أبي طالب، قبل موقعة الجمل، بشأن ضرورة إعادة النظر في مسير كلا الفريقين، والبحث عن حلول سلمية وواقعية للأزمة الحالية؛ لكنه وصل إلى نقطة اللاعودة، فصرح بذلك أمام الناس، وأعلن اعتزاله المشهد السياسي آنذاك، مع ما فيه من الفتنة الأهلية.
 وما إن آلت الأمور إلى معاوية، حتى قام له ناصحا ومرشدا ومبينا بعض الممارسات السياسية السلبية؛ ومنها مسألة توريث الحكم للأبناء، فقد كان رافضا لهذه الفكرة، ودعا إلى ترك الأمر للشعب شورى بين المسلمين. ولم تتأثر نظرته أو يتغير تقييمه للسلطة السياسية بالرغم من تقرب السلطة إليه بجعله مستشارا وإيفاد الهدايا، وإكرامه وحسن معاملته؛ فالحق أحق أن يتبع في ذهنية الأحنف الإصلاحية.
لقد كانت شخصية الأحنف بن قيس التميمي جذابة للسلطات والحكومات، ومرغوبة للملوك والرؤساء؛ فقد حاول بنو الزبير مرارا وتكرارا، في سلطتهم ودولتهم الجديدة في مكة، أن يستميلوه ما استطاعوا، ولكنه اختلف معهم دون تحفظ وأبدى لهم ملاحظاته ونقده المباشر للسلطة بهدف تحقيق العدالة. وأيضا حاول عبد الملك بن مروان جاهدا استخدامه كورقة سياسية ضاغطة على القوى المناوئة له فلم يستطع، لقوة الأحنف في آرائه السياسية، ومعارضته لكل ممارسة سياسية يراها غير مناسبة.
ومن أقواله في السياسة: “لا تنقبضوا عن السلطان ولا تهالكوا عليه، فإنه من أشرف للسلطان أذرأه، ومن تضرع للسلطان أخطأه” وقال أيضا: “لا ينبغي للسلطان أن يغضب، لأن الغضب مع القدرة لقاح السيف والندم”!.
و في نهاية المطاف، الحلم والأناة والتعقل في السياسة أمر شديد المحمودية، فلم نجد بلاء يُبتلى به السياسيون كالعجلة في اتخاذ القرارات، وإصدار الأحكام والتحليلات اللامنطقية، وسرعة الغضب في تنفيذ العقوبات، والسماع للوشاة والمغرضين وأصحاب الفكر السيئ والسلوك الخبيث والمطامع الشخصية؛ فالنصيحة التي نهديها لكل من وَلِيَ سلطة من السلطات أو إدارة من الإدارات الحكومية، أن يتخذ من حلم الأحنف وتعقله وعدم تسرعه في الأحكام منهاجا يسير عليه في طريقه الـسياسي، وأن لا يستمع إلا لمن شهد له الناس بحسن الرأي وخوفه على المصلحة العليا للبلاد.

د. جاسم الجزاع

أكاديمي كويتي

• روسيا واسترداد مجد القياصرة
• الطريق إلى الصين
• أكانت العصور الوسطى حِقبة مظلمة فعلاً أم ممهِّدة لعصر النهضة؟
• عاصمة الإمبراطوريات