تحرير القدس (2)

بواسطة | أبريل 29, 2024

بواسطة | أبريل 29, 2024

تحرير القدس (2)

وكأنما إمارة الرُّها كانت بداية انفراط عِقْد المدن المحتلة، إذ تتابعت الفتوح، وتوالت، وسقطت إمارات الصليبيين الواحدة تلو الأخرى، ودُكّت الحصون كذلك، وآل أمر المسلمين تِباعًا إليهم.

وقد جعل ابن القيسراني فتح الرها مقدمة لفتح بيت المقدس، وبشَّر بذلك في مِدحته لجمال الدين الوزير، إذ يقول في مطلعها:

 أما آن أَن يزهق الباطل

                                وأن ينجز العِدَة الماطل

إِلى كم يُغِبُّ ملوكَ الضلا

                                ل سيفٌ بأعناقها كافل

وتبدو فكرة أن استعادة البلاد لا بد لها من حمل السيوف فكرة جوهرية، يؤكد عليها الشاعر في أكثر من موضع؛ فهو يقول:

هو السيف إلا تكن حاملاً

                                لِبِزَّته بَزَّك الحامل

وهل يمنع الدينَ إلّا فتًى

                                يصول انتقامًا فَيَسْتاصل 

ويبشر فيها بفتح القدس في قوله:

شَقَقْتم إليها بحار الحديـ

                                ـد ملْتطِمًا مَوْجُه الهاطل

فإن يك فَتْح الرها لُجَّةً

                                فساحلها القدس والساحل

فهل عَلِمتْ عِلْمَ تلك الدِّيا

                                ر أَن المقِيمَ بها راحل

أرى “القُمْص”  يأمل فَوْت الرما

                                ح ولا بدّ أَن يُضرَب السابِل

وصنع ابن منير الطرابلسي الصنيع ذاته، حين هنّأ عماد الدين بفتح الرها، واستبشر بفتح القدس بعد ذلك، وأن جيوش المسلمين سوف تنتزعها من أيدي الصليبيين، وتُعِيدها إلى حومة الإسلام، وأن هذه الجيوش إذا عقدت العزم على الجهاد، فليس يقف أمامها حصن مهما كان حصينًا، يقول:

سُمِطَتْ أَمْسِ (سُمَيْساط) بها

                                نَظْمَ جيش مُبْهِج للناظرينْ

وَغَدًا يلقى على القدس لها

                                كَلْكَلٌ يدرسها دَرْسَ الدرين

هِمّة تمسي، وتُضْحي عَزْمة

                                ليس حِصْنٌ إن نَحَتْهُ بِحَصين 

وجعل ابن منير الطرابلسي في مدحه نورَ الدين، يصور عيسى عليه السلام مستنجِدًا به، لاجئًا إلى حماه، مُستنصرًا بسيفه، بارئًا مما يرتكبه الصليبيون في القدس، فقال:

لا عَدَمَ الإسلام من كَفُّه

                                كهف لِمن أُرْهِق أَوْ أُحْصِرا

أبقاكَ للدنيا والدين مَنْ

                                خَلَّاكَ في لَيْلهما نيِّرا

حتى نرى عيسى من القدس قد

                                لَجا إلى سيفك مستنصِرا 

وانتهز ابن القيسراني انتصار نور الدين في معركته مع الصليبيين عند حصن (إنّب) من أعمال أنطاكية، سنة 544 هـ، وجعلها فرصة سانحة ليدعوه إلى تحرير بيت المقدس، والثأر للدين من أعدائه.

وتبقى الفكرة المحورية في شعر ابن القيسراني الجهادي، التركيز على طبيعة هذا النزاع، وجوهر هذه الحرب، إنها حرب عقائدية وليست ثأرية، وهي ليست لمنافع ذاتية أو مصالح شخصية، فإذا غضب نور الدين فإنما غضبُه لله، وإذا خلّص بلدًا أو حِصنًا، فإنما يفعل ذلك تطهيرًا لها من دَرَن الكفر، ومن رجس الشرك، ومن نجاسة العقيدة الفاسدة، يقول:

غضبتَ للدين حتى لم يَفُتْكَ رضى

                                وكان دين الهدى مرضاتُه الغضب

طهَّرتَ أرض الأعادي من دمائهم

                                طهارةً كلُّ سيف عندها جُنُب 

 إلى أن يقول، مبرّئًا إيّاه من كل طمع في الغنيمة، أو قصد دنيوي، مفضِّلاً إياه على ما عداه من الغازين المنتفعين:

من كان يغزو بلاد الشرك مكتسِبًا

                                من الملوك فنور الدين محتسِب 

ولولا هذه النيّة التي أخلصها قادة المسلمين – آنذاك- لله، لَمَا كتب الله على أيديهم فتح بيت المقدس، ولا جعل تطهيره بسبب منهم.

ثم يصل ابن القيسراني قصيدته بدعوته الصادقة لنور الدين أن يهبّ إلى القدس ليحررها، وأن يثب إليها ليخلّصها ممّا علق بها من أوضار، وما شانَها من أطمار، ويستصرخه عالمًا أنه سيلقى أذنًا سامعة، وقلبًا واعيًا، وفؤادًا على الجهاد صابرًا، ونفسًا إلى حومة النزال ماضية.. يقول:

فانهض إلى المسجد الأَقصى بذي لَجِبٍ

                                يُولِيك أقصى المنى فالقدس مرتقِب

وائذن لِمَوْجك في تطهير ساحله

                                فإنما أنت بحر لُجُّهُ لَجِبُ

يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة

                                من الظُّبا عن ثغورٍ زانها الشّنَب

ما زلتَ تُلْحِق عاصيها بطائعها

                                حتى أقمْتَ وأنطاكيّةٌ حلبُ 

لقد كانت عقيدة المسلمين، وإيمانهم بنصر الله، وتمكين المؤمنين الصادقين في الأرض، واستخلافهم من بعد ما أُوذوا واستُضعِفوا في الأرض.. أقول: كانت تحفّزهم إلى اليقين الراسخ الذي لا يتزعزع بقرب فتح القدس، وتخالهم وهم يتحدثون عن هذا الفتح – قبل وقوعه – كأنما هم يشاهدونه أمامهم ماثلاً، حقيقة قائمة، ليس يفصل بينها وبين تجسُّدها على أرض الواقع، إلا الإيمان الصادق بالله، والثقة الثابتة بجبار السماوات والأرض، فراحوا يُعِدّون أنفسهم لهذا الفتح، وَيَعِدُون المجاهدين الصابرين بأنه آتٍ لا ريب فيه، وقد كان.. وسيكون في كل مرة تضيع فيها القدس من أيدي المسلمين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...