حديث المقاطعة في السوبر ماركت!

بواسطة | ديسمبر 31, 2023

بواسطة | ديسمبر 31, 2023

حديث المقاطعة في السوبر ماركت!

في مشهدٍ يمزج بين الحيرة وترسيخ الوعي، تتسلل قصة البحث عن حلوى لتكشف عن عالم الأطفال وتحديات اختيار الأنواع المفضلة. إلا أن هذه القصة تأخذ منحىً خاصًا عندما يظهر اهتمام الأطفال بمفهوم المقاطعة والعداء لإسرائيل. في هذا السياق، نتناول تأثير المقاطعة على المستوى الشخصي والجماعي، مستعرضين الوعي المتزايد للأطفال حيال هذا الموضوع.

مقاطعة!

وقعت في “حيص بيص” -كناية عن الحيرة- عندما سألت طفلة، هي ابنة صديق لي، عن الذي تريده في زيارتي لهم، فقالت: “بونبوني”!..  ذلك أن علاقتي بالمذكور، انتهت قبل تنوعه وتعدد أصنافه، ومنذ أن كان في مرحلته الأولى، وكان يطلق عليه “دُروبس”، ثم تطور شكلاً، ليصبح “كراميل”؛ وهي أسماء مرتبطة بالأزمنة الغابرة، وحتماً لا تعرفها الأجيال الجديدة!

ما شغلني هو كيف أختار النوع الأفضل، وعندما وجدت طفلين يقفان أمام القسم الخاص به في السوبر ماركت، اعتبرتُني محظوظاً بوجودهما، فالكبير فيهما في سن السابعة تقريباً، بينما بدا لي الصغير أقل من ذلك بعامين، لكني قبل الاستعانة بهما في إنجاز مهمتي، راعني أنهما مشغولان بأمر آخر؛ إذ كان أحدهما يمد يده إلى صنف، فيخبره الآخر أنه “مقاطعة”، ويسأل الكبير الصغير: هذا الصنف مقاطعة أم لا؟ فجيبه!

الوقوع في المحظور

كان الصغيران مشغولَين بألا يقعا في “المحظور”، وإن بدا لي أصغرهما أكثر وعياً بالقائمة وأكثر حفظاً لها، ولم يكونا أكثر من ظاهرة في هذه الأيام في عالمنا العربي، بل إن أطفالاً أوروبيين يشاركون في مقاطعة الشركات التي تمول إسرائيل، والجيل الجديد أكثر التزاماً بها من جيل الآباء، منذ عملية طوفان الأقصى.

كانت البداية بإعلان شركة “ماكدونالدز” في تل أبيب عن دعم الجيش الإسرائيلي بوجبات مجانية، في وقت عدوانه على غزة، عندئذ بدأ الاهتمام بالأمر، لنكتشف أن عدداً كبيراً من الشركات العابرة للقارات تقدم دعماً سخياً للاحتلال، لكن الوعي بها لم يظهر بشكل جلي إلا هذه الأيام، وإن كنت لا أحفظ من القائمة إلا “ماكدونالدز” و”ستاربكس”، بينما الأطفال الصغار يحفظونها عن ظهر قلب!

تأثير المقاطعة

كان زميلنا الراحل شفيق أحمد علي مشغولاً بالكتابة عن جدوى المقاطعة، وكتب في ذلك كتابين على ما أذكر، أهداني أحدهما، وقد بدا فيه كما لو كان يبذل جهداً كبيراً في الوصول إلى قائمة بالشركات حول العالم التي تدعم الاحتلال، ويبذل جهداً أكبر في إثبات نجاعة سلاح المقاطعة وأهميته، وإن بدا يحرث في الماء، ويطير كلامه في الهواء! ولو أمد الله في عمره وعاش إلى الآن، لوقف على أن الأجيال الجديدة، وهي تؤوب مع دعوة المقاطعة، وفرت عليه الجهد المبذول، لاسيما بعد الخسائر التي منيت بها هذه الشركات، ووصلت في حالة “ستاربكس” إلى (11) مليار دولار، بحسب المعلن في نهاية الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)؛ وإن قام بعضهم بدعاية مضادة – وبحجج واهية- عن الأضرار التي يمكن أن تنال العمالة المحلية، مع أنه لم يُعرف عنهم اهتمامٌ بحقوق هذه العمالة في يوم من الأيام!

إن المرء ليدهش عندما يعلم أن عدداً كبيراً من الشركات العابرة للقارات تمول الكيان الصهيوني بسخاء، في حين أن الدول العربية هي الأكثر استهلاكاً لمنتجاتها، فما ندفعه نحن من حر مالنا يذهب لدعم الاستيطان والمستوطنين، وثمناً لأسلحة يُقتل بها الفلسطينيون ويدمر بها القطاع بشكل دوري؛ ولو مارسنا عليها المقاطعة بجدية فلربما اختفى هذا الدعم، وحتى لو استمر فإنه لن يكون من المناسب أن نظل داعمين للاحتلال وجرائمه، ولو استمرت المقاطعة لاتخذت فروع هذه الشركات في العالم العربي وضعاً مستقلاً، لا تكون معه مجرد توكيلات لمثل هذه الشركات؛ وإذا حصل هذا فإن ما تقدمه الآن ستاربكس مثلا، لا يمكن أن يستمر إذا صارت اسما تجاريا محلياً، ليس مرتبطاً بداعمي الاحتلال؟!

العداء لإسرائيل

ندرك حالة البلادة لدى بعض التجار العرب، إذ يشغلهم أن يحصلوا على توكيلات لمنتجات أجنبية، على أن يكونوا هم علامات تجارية؛ بينما الواقع في تركيا أنه رغم وجود شركات الحلوى الأجنبية، فإنها لا تنافس محلات “حافظ مصطفى” طعماً وجودة وتزاحماً، ولا تنافسه ستاربكس، التي هي على مرمى حجر منه في بعض المناطق!. وحافظ مصطفى رجل أعمال تركي، ويقال إن “حافظ” لقبه وليس اسمه الأول، وقد أُطلق عليه لأنه يحفظ القرآن الكريم!

عندما بدأت الدعوة للمقاطعة بعد طوفان الأقصى، وبدأت القائمة بمطاعم ماكدونالدز، كان هناك خوف من الآباء ألا ينجحوا في المهمة بعد اعتياد أطفالهم على هذه الوجبة السريعة، لكن الأطفال هم الذين صاروا أكثر وعياً من أجيالنا وجيل الآباء المقاطعين، فانتقلوا من مقاطعين إلى حافظين للأسماء الداعمة للكيان، وأصبحت مفردة “مقاطعة” شائعة ومنتشرة عندهم، فكيف عرفوا إسرائيل وضرورة أن تقاطَع؟!

كان العداء لإسرائيل في الأجيال السابقة جزءاً من ثقافتها، وعندما وقّع السادات معاهدة كامب ديفيد دفع حياته ثمناً لذلك، وسبق اغتيالَه تنكُّر الناس له، واحتداد المعارضة عليه، وهو الذي كان قد حصل على إجماع الجماهير قبل ذلك بسنوات قليلة، بعد نصر أكتوبر 1973، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الأنظمة العربية تتخلى عن تراثها، وحدثت انتفاضة الأقصى، وبدت المقاطعة هي حديث العقل!

ومع أن اليسار العربي هو الذي تصدر المشهد في البداية، وتخطى الرقاب في المواجهة، فإنه بسقوط الاتحاد السوفيتي أخذ في الترنح حتى صار داعماً لتيار التطبيع؛ فمن كان يمكن أن يصدق أن لطفي الخولي مثلاً ينتهي به الحال إلى تأسيس جماعة داعمة للسلام والاعتراف بإسرائيل؟! وبدا السادات بما فعل كما لو كان سابقاً لعصره، بعد إيمان المقاومين المتقاعدين بصحة ما أقدم عليه، وكانوا في هذا كله في حالة تماهٍ مع القوة التي تمثلها إسرائيل، صاحبة (الجيش الذي لا يقهر)، وقد ضمنت له الولايات المتحدة الأمريكية التفوق – سلاحاً وإعداداً- على جيوش المنطقة!

وعندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، اندفعت الأنظمة العربية والنخبة في تقديم التنازلات، وتغيرت المناهج، فلا حديث عن جهاد أو مقاطعة أو عدوان، وألغيت مادة التربية الدينية في كثير من البلاد العربية، وتم تأميم المنابر وخنق الدعاة، وحُذفت مفردة الجهاد من الخطاب الديني، ومن المقررات الدراسية، ومن صفحات الصحف ومقالات العرب!

وبدأت بعض الدول تتقرب للكيان الصهيوني بالنوافل، وترى تطبيعها معه إنجازاً يؤهلها لأن تكون دولاً لا عِزَباً، وفقد “عرّابو السلام” السابقون أهميتهم؛ فاللعب صار على المكشوف والدول التي كانت تحتاج لوسيط للتطبيع السري، سارت في “السكة البطالة” جهاراً نهاراً، بل وبفخر ومباهاة، حتى صار التطبيع موضة العصر، فتبارى البرهان وحميدتي في الحصول على الاعتراف الصهيوني، وأقدم الحزب الإسلامي في المغرب على إبرام المعاهدة، وعنت الوجوه لإسرائيل فلا تسمع إلا همساً!

الآفاق المستقبلية

في ظل هذه الأجواء نشأ وترعرع جيل عريض، حتى وقع طوفان الأقصى، فإذا بأطفال الأمة يتصدرون مشهد المقاطعة والعداء لإسرائيل؛ فمن أين عرفوا أن إسرائيل عدوّ، وأن من يساعدها يستوجب مقاطعته؟!

إنه خلق جديد!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...