“دعه يعمل دون أن يمرّ”.. عن صعود السلطويات الرأسمالية

بقلم: خليل العناني

| 11 مايو, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: خليل العناني

| 11 مايو, 2023

“دعه يعمل دون أن يمرّ”.. عن صعود السلطويات الرأسمالية

ارتبطت الرأسمالية في الفكر الغربي بالليبرالية، بل يرى البعض أن الأولى كانت سببا أساسيا في ظهور الثانية انطلاقاً من المذهب النفعي، الذي وضع أسسه الفيلسوف والمفكر الإنجليزي جيرمي بنثام (١٧٤٨-١٨٣٢)، وتأثر بها كثيرون من بعده، وعلى رأسهم الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣)، الذي يعد أحد أهم مؤسسي ومنظّري المدرسة الليبرالية في الفكر الحديث. وقد ساهمت أفكار بنثام وميل في تحويل الرأسمالية إلى مدرسة اقتصادية، وعقيدة إيديولوجية، لا تزال تجلياتها وتمثلاتها واضحة حتى اليوم.
تاريخيا، ثمة علاقة وثيقة بين الرأسمالية والليبرالية، خاصة في المجال الاقتصادي؛ حيث تقومان على ترك الحرية للأفراد في تحديد نشاطهم الاقتصادي دون تدخل من الدولة، والاعتماد على السوق (أو اليد الخفية، كما أسماها المفكر الاقتصادي المعروف آدم سميث) في تحديد أسعار السلع والمنتجات؛ وهذا ما يجري تلخيصه دوما بالعبارة الشهيرة “دعه يعمل … دعه يمرّ”.

تمثل الصين وروسيا أبرز الأمثلة على نموذج الرأسمالية السلطوية، التي تحتكر الثروة والسلطة. والأخطر من ذلك محاولتهما تصدير هذا النموذج لبلدان أخرى، خاصة في العالم العربي وبعض بلدان آسيا الوسطى مثل كازاخستان، وفي أوروبا الشرقية مثل بولندا ورومانيا.

وقد ظل هذان المذهبان (الرأسمالية والليبرالية) متداخلان إلى حد بعيد طيلة القرون الثلاثة الماضية، وذلك إلى أن شهدنا خلال العقود الأخيرة ظهورا لنمط (وربما نموذج) جديد، يقوم على الرأسمالية، ولكن من دون الحرية؛ وهو نموذج “الرأسمالية السلطوية”، الذي تقوده الآن اثنتان من أهم القوى العالمية، هما الصين وروسيا. وهو نموذج يقوم على فكرة رأسمالية الدولة، حيث يُسمح للدولة بممارسة دور تدخلي في الاقتصاد، ليس لصالح المواطنين كما كانت الحال في الخمسينيات والستينيات، ولكن لصالح نخبة أو طبقة أو مجموعة أوليغاركية، تحتكر السلطة والثروة دون منافسة حقيقية من نخب أو جماعات أخرى. وفي الوقت نفسه تقوم هذه الدولة بقمع مخالفيها وإقصائهم سياسيا واقتصاديا.
وقد ساهم في نجاح هذا النموذج الجديد، قدرته على تحقيق المعادلة الفريدة التي كانت تحققها الديمقراطية الليبرالية؛ وهي التنمية والازدهار الاقتصادي، ولكن بدون حرية أو ديمقراطية؛ وكذلك الأزمة التي يمر بها النموذج الليبرالي الغربي مع صعود القوى اليمينية والشعبوية في بلدان عُرفت برسوخها الديمقراطي، مثل أميركا وفرنسا، وألمانيا وبريطانيا وغيرها.
وتمثل الصين وروسيا أبرز الأمثلة على نموذج الرأسمالية السلطوية، التي تحتكر الثروة والسلطة. والأخطر من ذلك محاولتهما تصدير هذا النموذج لبلدان أخرى، خاصة في العالم العربي وبعض بلدان آسيا الوسطى مثل كازاخستان، وفي أوروبا الشرقية مثل بولندا ورومانيا.
وعلى عكس نظريات التحديث والانتقال الديمقراطي الكلاسيكية، التي ربطت دوما بين الديمقراطية والازدهار الاقتصادي، فقد نجحت الرأسماليات السلطوية في تحقيق معدلات الازدهار والنمو الاقتصادي نفسها خلال العقدين الأخيرين، بل وتفوقت أحيانا على نظيرتها الغربية، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للنموذج الغربي، الذي بشّر به كثير من المفكرين والباحثين الغربيين وعلى رأسهم فرانسيس فوكوياما.
نظرة سريعة على المؤشرات الاقتصادية والإنتاجية والتنموية للسلطويات الرأسمالية ومقارنتها بنظيرتها الغربية، تكشف هذا الواقع الجديد. فحسب دراسة ياشا مونك، الأستاذة بجامعة هارفارد، وروبرتو ستيفان فاو الباحث بجامعة ملبورن، والتي نشرتها مجلة “فورين أفيرز”، فإن ثلثي أكبر ١٥ اقتصادا في العالم الآن، تنتمي لبلدان غير ديمقراطية. كما أن مساهمة هذه البلدان في الدخل العالمي قد ارتفع من ١٢٪ إلى حوالي ٣٣ ٪ خلال السنوات القليلة الماضية. كما أنه على مدار العقد الماضي نجحت هذه السلطويات، خاصة في الصين وروسيا، في رفع معدلات التحديث والتصنيع، وشهدت ارتفاعا ملموسا في معدلات الدخل الفردي، التي وصلت إلى معدلات غير مسبوقة. ففي الصين على سبيل المثال، هناك ما يقرب من حوالي ٤٥٠ مليون شخص بمتوسط دخل سنوي يبلغ حوالي ٢٣ ألف دولار، وهو رقم كبير مقارنة ببلدان أخرى ديمقراطية؛وهذا الرقم قريب أيضا من معدل الدخل الفردي في روسيا، التي ارتفع الدخل الفردي فيها من حوالي خمسة آلاف دولار أواسط التسعينيات إلى ما فوق ٢٠ ألف دولار عام ٢٠١٧. أي أنه تضاعف حوالي أربع مرات في نحو عشرين عاما.

إذا كان البعض قد أطلق على القرن العشرين “قرن الديمقراطية”، وذلك نتيجة لتحول عدد كبير من البلدان من السلطوية إلى درجة من درجات النظم الديمقراطية، فإن البعض يرى أن القرن الواحد والعشرين سوف يكون قرن السلطويات الجديدة.

ولعل خطورة هذا النموذج التحديثي ليست في كونه أصبح منافسا للنموذج الليبرالي الغربي، وإنما بالأساس لأنه يقوم على انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، واستخفاف بمسألة الحريات السياسية (حرية التعبير، حرية التجمع، حرية الصحافة،… إلخ). كما أنه يقوم بدعم الأنظمة السلطوية في مناطق أخرى، كما هي الحال في المنطقة العربية وإفريقيا وشرق أوروبا وآسيا الوسطي. وهو نموذج يقوم على مبدأ “القمع مقابل التنمية”، ويبدو جاذبا لبعض الشعوب والمجتمعات. وقد أطلق البعض على هذا النموذج مسمي “الحداثة السلطوية”. والأكثر من ذلك أن هذا النموذج لا يتم تصديره للدول النامية فحسب، وإنما أيضا للدولة المتقدمة. وعمليات القرصنة والحرب الإلكترونية التي نشهدها اليوم هي خير دليل على ذلك. فقد تدخلت روسيا في كثير من الديمقراطيات الغربية، وتلاعبت بعقول شعوبها عبر جيش من المارينز الإلكتروني، وتسعى جاهدة لإسقاط النموذج الغربي بالضربة القاضية.
وتسعى الصين وروسيا بشكل حثيث إلى تصدير نموذجيهما السلطويين خارجيا، من خلال استخدام القوة الاقتصادية والتكنولوجية. وتزداد جاذبية هذا النموذج مع ارتفاع معدلات غياب العدالة الاجتماعية في البلدان الغربية، خاصة في الولايات المتحدة التي تعاني من هيمنة أقلية متنفذة على الثروة، في ظل تخلّي الدولة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، كالتأمين الصحي والتعليم الجيد، وذلك في مقابل الدعم الذي تقدمه الأنظمة السلطوية الغنية لمواطنيها. وهو ما يجعل الديمقراطية، وما يرتبط بها من قيم الحرية والمواطنة وحكم القانون، غائبة عن سلم أولوياتها.
وإذا كان البعض قد أطلق على القرن العشرين “قرن الديمقراطية”، وذلك نتيجة لتحول عدد كبير من البلدان من السلطوية إلى درجة من درجات النظم الديمقراطية، فإن البعض يرى أن القرن الواحد والعشرين سوف يكون قرن السلطويات الجديدة. يقولون ذلك وهم يشهدون انبعاث حركات اليمين المتطرف التي انقلبت على ميراث العولمة، التي رسخت التعددية والقبول بالآخر والهجرة، طيلة العقود الثلاثة الماضية. بل يتوقع البعض انبعاث الأيديولوجيا الفاشية من جديد، ولكن في ثوب آخر وبأدوات جديدة.
ورغم كل ما سبق، فما نزال نعتقد بأن نموذج السلطويات الرأسمالية غير قابل للاستمرار، وذلك لأسباب كثيرة موضوعية، ليس أقلها أن معدلات النمو الاقتصادي الراهنة لن تستمر طويلا، بل ستتناقص تدريجيا، خاصة في ظل انشغال روسيا وانخراطها في صراعات كثيرة خارج أراضيها؛ كما أن الصين قد دخلت ما يشبه حربا تجارية مع أميركا، وسوف تؤثر سلبيا على أدائها في المستقبل القريب. وبكلمات أخرى، فإنه لا يوجد مستقبل حقيقي أمام السلطويات الرأسمالية، لسبب بسيط هو أنها تسير عكس منطق الأشياء، حتى وإن بدت متماسكة وجذابة مؤقتا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

سوريا وثورة نصف قرن

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...

قراءة المزيد
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!

يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع "إصلاح" مدونة الأسرة في المغرب من تداعيات مرتقبة على منظومة الأسرة ومؤسّسة الزواج؛ بسبب اختزال التغيير في أربعة محاور قانونية ضيقة: منع تعدّد الزوجات، والحضانة، والطلاق، والإرث. ويكبر في رأسي سؤال فلسفي حيوي تفادَيْنا...

قراءة المزيد
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!

فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها أهليته لأن يكون حاكماً عربياً مكتمل الموهبة، فلم يعد ينقصه شيء لاستقلال دولته، بل وأن يكون الحاكم على غزة عندما تلقي الحرب أوزارها، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل قبل أن يفعلها! فعلها أبو مازن، فقد أغلق مكتب الجزيرة في رام...

قراءة المزيد
Loading...