عن المدلّسين.. أو بائعي “الكلام” في بلادنا

بقلم: خليل العناني

| 18 مايو, 2023

بقلم: خليل العناني

| 18 مايو, 2023

عن المدلّسين.. أو بائعي “الكلام” في بلادنا

التدليس لغة يعني الغش، ودلّس البائع: أي أخفى عيوب بضاعته عن المشتري، واصطلاحا يعني الزيف والخداع، خاصة في مجال الفكر والرأي. أما المدلّسون، في هذا المقام، فهم نفر من أهل العلم والفكر والثقافة يستخدمون بضاعتهم ومهاراتهم وأحاديثهم في خداع الناس، وغشّهم، وتزييف عقولهم، ووعيهم. وهم كالشعراء الذين تجدهم في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون.
والتدليس لا يختلف، هنا، كثيرا عن التلبيس، الذي يعني إظهار الباطل في صورة الحق عبر التمويه والخداع، وكذلك إظهار الأول وكتمان الآخر عبر خلط الصدق بالكذب. ولبَّس عليه الحقائق، أي خلطها وستر حقيقتها وأظهر خلافها.

“المثقف الكبير” الذي كان يدافع عن الحرية، ويطالب بالديمقراطية باعتبارها الحل، فلمّا جاءت بخصومه إلى السلطة انقلب على عقبيه، فلعن الديمقراطية، وحرض خصومها للانقلاب عليها، ثم برر فعلتهم بأنها كانت لمصلحة الوطن.

اليوم، لا يكاد يخلو مجتمع عربي من المدلسين والملبّسين، الذين يخلطون الحق بالباطل عبر التضليل والخداع، وكثير منهم يتخذ صفة العلماء والمفكرين والمثقفين والإعلاميين والمؤثرين و… إلخ. ويصفهم البعض جهلا بـ”العلماء” ويسمّون أنفسهم، غرورا واستعلاء، بـ”النخبة”، التي تعرف كل شيء، وتفهم في كل شيء، وتتحدث عن أي شيء، وأنها إذا تحدثت يجب أن ينصت الناس، وإذا صمتت، فصمتها فلسفة وحكمة.
خذ -على سبيل المثال- ذلك “العالم الجليل”، الذي يخلط الحق بالباطل متعمدا، ويمارس التدليس على مريديه وتابعيه، وذلك من أجل تبرير أفعال السلطة وأصحاب النفوذ، وهو شيخ كبير معمّم، صاحب علم ومؤلفات، كان يوما سمته الوقار، أو على الأقل هذا ما كانت تظهره لحيته البيضاء الكثّة. كان يصفه طلابه بـ”العالم” الفقيه، والشيخ المجدّد، والعابد الزاهد المتصوّف، الذي لا يُشق له غبار في مسائل الفقه والإفتاء، وهو ما جعله يجلس على عرش “الإفتاء” في مصر لعقد كامل من الزمان. وكان، وربما ما يزال، يمنّي النفس بأن يصبح شيخا للأزهر الشريف. فجأة، سقط وقار الرجل، وتبددت هيبته، بعد أن ارتمى في أحضان السلطة، يمجدها ويداهنها ويبارك كل أفعالها، ويشن حربا ضروسا على مخالفيها. وتحوّل لسانه إلى مدفع رشاش تقفز من بين شفتيه عبارات الكراهية والتحريض على قتل المخالفين لها، بعد أن استحل دماءهم، ووصفهم بأنهم “أوباش” و”خوارج هذا العصر” و”كلاب أهل النار”؛ هكذا انقلب الشيخ الودود، ذو الوجه البشوش، والطلعة البهية، إلى وجه غاضب متجهم، ينفث كذبا وكراهية ضد مخالفيه، في حين يكيل لسانه المديح والنفاق للسلطة مهما أخطأت، وذلك في أكبر عملية “تدليس” و”تلبيس” تجري تحت عباءة من يوصفون “بالعلماء” ورجال الدين.
خذ أيضا ذلك “المثقف الكبير” الذي كان يدافع عن الحرية، ويطالب بالديمقراطية باعتبارها الحل، فلمّا جاءت بخصومه إلى السلطة انقلب على عقبيه، فلعن الديمقراطية، وحرض خصومها للانقلاب عليها، ثم برر فعلتهم بأنها كانت لمصلحة الوطن. وأيضا هناك ذلك الأستاذ (أو الأستاذة)، والمحاضِر (أو المحاضِرة) الجامعي (الجامعية)، الذي ظل يحاضر الناس عن الحرية، ويدرسهم قواعد الديمقراطية، فلما ناداه أصحاب النفوذ، بسيفهم وذهبهم، ذهب إليهم مهرولا؛ يمتدح الطغيان ويبرر الجرائم، متناسيا كل ما كان يردده عن الحرية والديمقراطية.

ذلك الصحفي الفذ، والإعلامي اللامع، الذي رفع سيف قلمه في وجه نظام مبارك، وكاد أن يدخل السجن بسبب ذلك، وعندما قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كان في مقدمة الصفوف، ولكنه تحول لاحقا إلى مؤيد للاستبداد، ومدافع عن جرائمه، في حين لا يجرؤ أن يفتح فمه بكلمة نقد لصاحب سلطة.

أعرف أحدهم، وقد كان يوما ما أستاذا جامعيا محترما يُشار إليه بالبنان لفرط ذكائه وقدراته البحثية، ولمواقفه التي كانت تعارض الاستبداد أيام مبارك. ولكنه تحوّل وانقلب على عقبيه بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، بل ويرفض الحوار مع كل من يخالفه في رؤية ما حدث. التقيته قبل سنوات تقريبا -على هامش مؤتمر علمي في بيروت- وكنت أعرض وقتها ورقة بحثية أسميتها “المقاومة تحت العسكر بعد انقلاب يوليو/تموز 2013″؛ فانزعج وانتفض، معترضا على عنوان الورقة، وأصر أمام الملأ على أن ما جرى في الثالث من يوليو/تموز لم يكن انقلابا؛ لأنه جاء نتيجة “ثورة شعبية” هي ثورة 30 يونيو/حزيران 2013. نعم، هكذا قالها على الملأ من دون أن يهتز له جفن. ثم عاد وكرر الأقوال نفسها على قناة “الجزيرة مباشر” قبل فترة حين كان يدافع عن “مسرحية الحوار الوطني” التي نشاهدها حاليا.
خذ أيضا، ذلك الصحفي الفذ، والإعلامي اللامع، الذي رفع سيف قلمه في وجه نظام مبارك، وكاد أن يدخل السجن بسبب ذلك، وعندما قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كان في مقدمة الصفوف، ولكنه تحول لاحقا إلى مؤيد للاستبداد، ومدافع عن جرائمه، في حين لا يجرؤ أن يفتح فمه بكلمة نقد لصاحب سلطة. وقد وصل به “جنون العظمة” مؤخرا أن يتخيل نفسه فقيها وعالما دينيا يفتي الناس في شؤون دينهم ودنياهم عبر برامجه التلفزيونية ولقاءاته الإعلامية، وقد أصابه “ذهب المُعزّ”، فأصبح فجأة من أهم “كتاب الدراما والسينما” في مصر.
وأخيرا، خذ ذلك الباحث النابه، والأستاذ الجامعي الشاب الذي كان يراه كثير من الشباب قدوة لهم، والذي عاد من أميركا بعد الثورة، وتقلّب على كافة الوجوه حتى وصل اليوم إلى قاع الدفاع عن الظلم والاستبداد في العالم العربي. سمعته قبل أيام يقول في إحدى برامجه بكل وقاحة “دافع عن حاكمك المستبد ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك”. هكذا قالها بملء فيه دون خجل أو وجل.
هؤلاء جميعا نعرفهم جيدا، ونراهم ونسمعهم على شاشات التلفزة، ونتابعهم على وسائل التواصل الاجتماعي التي تطاردنا بأخبارهم وتدليسهم ليل نهار، فما أكثرهم بين ظهرانينا، يروجون بضاعتهم من دون كلل أو ملل، ويصرخون في الناس ليصدقوهم ويتّبعوهم. وهم بين شيوخ وعلماء وأساتذة جامعيين ومثقفين وباحثين وإعلاميين وصحفيين و… إلخ، وقعوا جميعا في مصيدة “التدليس” التي تخلط الحق بالباطل، دون وازع أو رادع.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لعنة الصحافة من “فوزية” لـ “هنيدي”!

لن يعرف قيمة أمه، إلا من يسوقه حظه العاثر للتعامل مع زوجة أبيه، ولن يعرف قيمة الدكتورة فوزية عبد الستار، إلا من يجد نفسه مضطراً للاشتباك مع إبراهيم الهنيدي. الأولى كانت رئيسة لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس الشعب المصري حتى برلمان 1995، والثاني هو رئيس اللجنة...

قراءة المزيد
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين

شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...

قراءة المزيد
الناقد ومراوغة النص..

الناقد ومراوغة النص..

استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها..   تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...

قراءة المزيد
Loading...