قرارتٌ ذاتُ سوادِ وجه!

بواسطة | يوليو 1, 2023

بواسطة | يوليو 1, 2023

قرارتٌ ذاتُ سوادِ وجه!

قبل ألف وثمانمئة سنة تقريبا برز “تساو تساو” كأقوى رجل في دولة الصين، وبسط نفوذه على مزيد من الأراضي، مستغلا الضعف الذي تعاني منه مملكة “هان”، المنافس القوي والشرس لكل الممالك الجديدة.
كان على “تساو” أن يخوض بعض الحروبِ، وفي إحدى حروبه حاصر مدينة كان الاستيلاء عليها يُعتبر فاتحة لما بعدها، فإن سقطتْ ستسقط المدن الأُخرى تباعا؛ ولكنه أخطأَ في حسابِ المدة الزمنية لوصول الإمدادات، فشحَّ طعام الجيش. فأمر مسؤول التموين أن يخفض كمية الطعام التي يتلقاها الجنود.

يحرص الساسة دوما على أن يكون لهم كبش فداء يُضحون به إذا ما اضطربت الأمور!.

والذي لم يكن يعرفه أحد أن “تساو” كان قد دسَّ بين الجنود عيونا له، ينقلون له كل صغيرة وكبيرة، كي يبقى مُمسكا بزمام الجيش؛ ونقل إليه جواسيسه تذمُّر الجنود، وتطاولهم عليه، وتشكيكهم به بأنه يختص نفسه وحاشيته بالطعام دون بقية الجيش. فما كان منه إلا أن استدعى مسؤول التموين، وقال له: أريد أن أستعير منك شيئا، ويجب أن لا ترفض.
فقال له مسؤول التموين: وما هو؟.
فقال “تساو”: أريد أن تعيرني رأسك لأعرضه على الجنود!.
فقال له: ولكني لم أرتكب ذنبا.
فقال له تساو: أعرف هذا.. ولكن، إن لم أقتلك فسيحدث تمرد في الجيش.. لا بد من كبش فداء يا عزيزي. ولا تقلق بشأن عائلتك، فهي في الحفظ والصون.
وعندما رأى الجنود رأس مسؤول التموين مُعلَّقا، اعتقدوا أن “تساو” قد عاقبه لأنه اختلق مشكلة، وتصرَّف بطعام الجنود دون الرجوع إليه. وعلى الرغم أن كمية الطعام بقيت قليلة لحين وصول الإمدادات، فإن كبش الفداء كان كافيا للإمساك بزمام الأُمور!. 
يحرص الساسة دوما على أن يكون لهم كبش فداء يُضحون به إذا ما اضطربت الأمور!.
 قرأتُ مرة أن ملكا استدعى وزير الخزانة لديه ليبحث معه عن مصدر لتمويل الخزانة التي تعاني شحا في المال.
فقال له الوزير: سيدي الملك، لا يوجد مصدر لدخل جديد!.
فقال له الملك: لماذا لا ترفع الضرائب؟
فقال له الوزير: أخشى أن يثور الناس عليك.
فقال له الملك: لا تقلق، لن يفعلوا، قم برفع الضرائب!.
وبالفعل، امتثل الوزير لطلب الملك، وأعلن عن مرسوم صادر عن الخزانة برفع الضرائب، فثار الناس!.

عندما حانت لحظة تعويضهم بحصة الرياضة المسلوبة، سارعت لإخبارهم بهذا بنفسي، فصرت عندهم البطل الذي أرجع لهم حقوقهم المسلوبة!.

عندها أصدر الملك مرسوما ملكيا مستعجلا، أعلن فيه عزل وزير خزانته الذي لم يجد مصدرا آخر لدعم الخزانة غير جيوب الرعية، وألغى بموجبه الضرائب الجديدة المفروضة؛ وعاد الناس إلى بيوتهم شاكرين للملك حزمه، ومُمتنين لإحساسه بهم!.
هذه هي القاعدة المستخدمة منذ فجر التاريخ، القرارات التي فيها سواد وجه يعلنها الوزراء، وكل شيء يحبه الناس كالعلاوات، وخفض الضرائب، وإلغاء قوانين يكرهها الناس، يعلنها الحاكم بنفسه!.
في الحقيقة، هذا قانون لا يُلعب به في أروقة السياسة فقط، في الحياة العادية له متَّسع أيضا، ولستُ أُذيع سرا إذا قلت إننا جميعا نستخدمه، جميعنا نبتعد عن أي خبر فيه سواد وجه، ونسارع لنحمل إلى الآخرين أي قرار يبعث على البهجة!.
أثناء عملي في التدريس، أخبرني مساعد المدير أنه عليَّ أن أُلغي حصة الرياضة لأحد الصفوف، لأن طبيبا من العيادة الصحية سيحضر ويخبر التلاميذ ببعض الإجراءات الصحية، وأنه سيعوض لهم هذه الحصة لاحقا.. طلبتُ يومها منه أن يقوم بنفسه بإخبارهم بهذه المصيبة، لماذا عليَّ أن أكون نذير شؤم في حين بإمكان غيري أن يحمل الأمر عنّي؟!. وعندما حانت لحظة تعويضهم بحصة الرياضة المسلوبة، سارعت لإخبارهم بهذا بنفسي، فصرت عندهم البطل الذي أرجع لهم حقوقهم المسلوبة!.
في البيت أُقسِّمُ الأدوار بيني وبين زوجتي، هي الحكومة التي تدير أمور الشعب بحزم.. تتابع دراستهم، تضبط مواعيد نومهم، وتحرص أن يأكلوا طعاما صحيا؛ أما أنا فملاك الرحمة الذي ينقذهم من هذه القوانين الرتيبة!. في أيام الامتحانات، إذا درسوا كثيرا أتدخل لتعليق الدراسة واقتراح مشوار ترفيهي، وليلة العطلة أسمح لهم أن يسهروا أكثر من المعتاد، وعندما نقرر أن نتناول الوجبات السريعة أكون أنا أسرع من الوجبات في تبني هذا الموقف الثوري!.
كانت هذه بعض الفضائح المنزلية الإستراتيجية، سائلا لي السلامة، ولكم الإفادة!.

أدهم شرقاوي

لا أضعُ حرف الدال قبل اسمي، أنا من الذين تكفيهم أسماؤهم!
جاهل وإن بدوتُ عكس ذلك،
عاصٍ وإن كان في كلامي رائحة التقوى،
وعلى ما فِيَّ من نقصٍ أُحاولُ أن أدُلَّ الناس على الله، أُحاولُ فقط!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...