ليس أوضح من الدّم

بواسطة | مارس 18, 2024

بواسطة | مارس 18, 2024

ليس أوضح من الدّم

يمكن أن تختلف مع الآخرين على كل شيء وعلى أي شيء، ولكنك لا يمكن أن تختلف معهم على الدّم، ذلك أنه حين يسيل أمام ناظريك وأمام أنظار العالم كله فلا أحد بمقدوره أن يجادل فيه أو يماري.

وها هو الدم في غزّة، يسيل من كل فجّ، وينثعب من كل شِقّ، ويتفجر من كل صدر، ولا يمرّ يوم واحد على غزّة المنكوبة – بهذه الهمجية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ- إلا ويكون لون الدم رايته، وصوته المسموع.

إن من أغرب الغرائب، ومن أعجب العجائب، التي لو لم نكن شاهدين عليها لما صدّقناها ولما قلنا إنها يمكن أن تحدث؛ هو أن يتشدّق العالم الأول بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويخصّ حقوق المرأة بآلاف المواثيق والنداءات، ثم هو ينتهك ذلك كله انتهاكًا صارخًا في غزّة؛ كأن غزّة لا تنتمي إلى هذا العالم، أو كأن سكانها ليسوا بشرًا، إنما هم مجموعة حيوانات، ولو عَدُّوهم حيوانات لكان للحيوانات حقوق أيضًا، ولكنهم يعدّونهم في مرتبة أقلّ من البشر وأحطّ من الحيوانات!

في غزّة تُسلَب حرية الناس، يُقتَلون، يُشرّدون، يُبادُون، يُقتَلعون، يُهجَّرون، يُنفَون من حارة إلى حارة ومن مدينة إلى أخرى ومن شمال إلى جنوب… في غزّة لا حقوق ولا ديمقراطية ولا سخام ولا من يحزنون… في غزّة قتل مُمنهَج وإبادة عرقيّة، وتدمير للحجر والشجر والحيوانات بَلْهَ البشر… في غزّة تُهان المرأة التي صدّعوا رؤوسنا في الغرب بحقوقها؛ تُقتَل، تُسحَل، يُبقَر بطنها، تموت مع جنينها، وإذا عاشت عاشت وقد نقصها عضو من أعضائها، لا أحد في غزّة اليوم يعيش بجسد كامل.

في غزّة تجد المبتور والمجدور والمقهور والممرور والمكسور والمقرور، لا أحد كاملاً في غزّة، إن سَلِم جسدًا لم يَسلمْ نفسًا، الذين تراهم سَلِيمي الأجساد ليسوا كذلك، إنهم مُحطّمون من الداخل، بعثرتْهم الحرب، ودمّرتْ نفسيّاتهم، وأكلتْ شبابهم، ومصّتْ رحيق أعمارهم، وتركتْهم ينتظرون الموت ويهتفون به في كل حين أنْ أقبلْ فقد طالت غيبتك، ويردّدون مع المُهلّبي قوله:

ألا مـوت يُـبـاع فـأشـتـريـه   فهذا العـيش ما لا خيـر فيه

ألا موت لـذيـذ الطـعم يأتي   يُخلّصني من العيش الكريه

إذا أبصرتُ قبـرًا من بعيـد   وددْتُ لَوَ.. انّـنـي ممّـَا يليه

ألا رحم المهيمن نفـس حُرّ   تصدَّق بِالوفـاة على أخيـه

في غزّة ألف وجع ووجع، وألف مأساة ومأساة، وفي رمضان تتفاقم مآسي الناس وتتعدّد، وإذا كان وحش الجوع قبل رمضان قد فغر فاه وكشّر عن أنيابه فالتقم عددًا من الجوعى الذين بعث بهم الموت إلى الضفة الأخرى، فإن هذا الوحش المُدمّر في رمضان قد أصابه السُّعار، فراح يخبط بقدميه الأسطوريّتَين على أرواح الناس، فيُهلِك كل من عَبَره، ويقضي على كل من حدّق في عينيه…

فيا ربّ الجوع، ويا ربّ وُحُوشه التي لا ترحم: ألا ترحم عبادك المؤمِنين، فتُطعِمهم من جوع وتُؤامنهم من خوف.. ويا ربّ الصواريخ والبارجات، والدبّابات والراجمات: ألا ترحم ضعفاء غزّة أطفالاً ونساء وشيوخًا ممّن لا حول لهم ولا قوة فتُنزِل عليهم بدل الصواريخ رحمتَك وخيرك وفضلك، فإنك ربّ كل شيء، وإنه لا مُعقِّب لحُكمك، وإنّا إلى عطفك جِدُّ فقراء.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...