مجد القلم

بقلم: أيمن العتوم

| 17 يوليو, 2023

بقلم: أيمن العتوم

| 17 يوليو, 2023

مجد القلم

إنه الذي بلَّغ عن الله، المحفوظ بلا واسطة، فهو بهذا تقدّم جبريلَ، وإنه أول مخلوق حَظِي ليس بشرف الوجود فحسب، بل بشرف سماع الكلمة الأولى من الله، فأيُّ منزلة تلك التي تبوأها إذاً؟!.
كان المتنبّي يهذي، أو لنقل إنه كان كسيرا، أو كان مأخوذا برهبة السيف حين قال في أُخريات حياته:
حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي .. المجد للسيـف ليس المجـد للـقلم
لا يا صديقي، بل المجد للقلم، حتى إن السيف لتخضع عنقُه لكلمةٍ منه، وأنتَ الذي قلت:
الـخيـل والـليـل والـبـيداء تعـرفـني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وجدُّك عنترة من قبلُ قال:
والنـقـع يومَ طِرادِ الـخيل يشـهد لي .. والضرب والطعن والأقلام والكتب
بل إن الذي خلَّدك إلى اليوم، وجعلكَ حاضرا في وجدان الأدب العربي، إنما هو القلم، لا سيفُكَ الذي قاتلْتَ به، ولا ضياعُكَ ولا أموالُك.
ولقد أقسم الله بالقلم ولم يُقسِم بالسيف، فانظر إلى قول أبي الفتح البُستيّ:
إذا أَقـسـم الأبـطال يـومًا بِسـيفهم .. وَعَدُّوهُ مما يُكسِبُ المجد والكَرَمْ
كفى قـلـمَ الـكُتّـابِ عِـزًّا ورِفْـعَـةً .. مدى الـدهـر أنَّ الله أقـسمَ بالـقـلمْ
وكان القلم وِقاء شظفِ العيش للكُتّاب، وكانوا يقولون: “إنّه يعتاشُ من سِنّ قَلَمِه”؛ فكم من كاتبٍ صادَقَه فأعطاه من فيوضِه، وكم من شاعر ناجاه فوهبَه أوسع خيالاته، وكم من ملِك جعله رسولَه إلى الملوك ففتح به مغاليقَ، ووطّد به أركانًا.
والقلمُ داعية الفكرة، وسِنان الكاتب الذي يطعن به، وحامل رايته، فما عبَّر عمّا يعتمل في الوِجدان وما تمور به الأعماق أوفى ذِمّة منه؛ وانظر كيف يراه أستاذنا محمود شاكر حين يقول: “إنّما حملتُ أمانة هذا القلم لأصدَعَ بالحق جِهارا في غير جَمْجمة ولا إدهان، ولو عرفت أنى أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذِلُّ العزيز ويُمتهن الكريم… وأنا جندي من جنود هذه العربية، لو عرفتُ أني سوف أحمل سيفا أو سلاحا أَمْضَى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكفّ عن القتال في سبيل العرب ما استطعتُ أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهى الناسَ أو يخدعهم، أو يغرر بباطل من باطل هذه الحياة”.
ولقد اتخذه الكُتّاب الكبار رفيقا لا يملّون منه، ولا يأنسون بِسوى حديثه، ولا يطربون إلا لصوت صريره على الأوراق، فقد قيل إن ابن جرير الطّبري، صاحب التاريخ وصاحب التفسير، لو وُزّعَتْ أيام عمره على مجموع ما كَتَب، لكان يكتب في اليوم أربعين ورقة، وقد أفنى عمره في ذلك، فحين قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل إتمامه! فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبع سنين؛ ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك! فقال: إنّا لله! ماتت الهِمَم! فاختصره في نحوٍ مِمَّا اختصر فيه التفسير.
ولقد لازَمَه الجاحظُ نحوًا من قرن كامل، ما تركه ولا نكص عنه، فانظر كيف يكتب المرء في حياته طوال عشرة عقود دون كلل أو ملل!. وكان إلى ذلك لا يكتب إلا ما يراه بليغا، فيه النفع والفائدة لمن يقرؤه، وهو صاحب نظرية “اللفظ والمعنى” الشهيرة، ولقد قال: “اعلمْ أن المعنى الحقير الفاسد واللفظ الساقط يُعشِّشُ في القلب، ثُمَّ يَبِيض، ثم يُفرِّخ، ثم يستفحل الفساد؛ لأن اللفظ الهجين الرديء عَلِقٌ باللسان، وآلفُ للسمع، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف والمعنى الرفيع الكريم”. فكان يدعو إلى ألا يُجري الكاتبُ قلمَه إلا على المعنى الشريف الرفيع.
وكان عبد الحميد الكاتب أول من وضع أسس الكتابة الفنية، ووضّح غاياتها ومقاصدها في رسالته إلى الكُتّاب، حين قال: “حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن اللهَ – عزَّ وجلَّ – جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – ومن بعد الملائكة المُكرَّمين؛ أصنافا وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصَرَفَهم في صنوف الصناعات وضُروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم – مَعشرَ الكُتَّاب – في أشرف الجهات، أهلَ الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بِكُم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلِح اللهُ للخَلقِ سُلطانَهم ويَعمُرُ بلدانَهم، لا يستغني الملِك عنكم، ولا يوجد كافٍ إلا منكم”.
وعبد الحميد الكاتب الذي عمل في بدء حياته معلما، وساح في بلاد الله، وجمع أصنافا لا تُعَدّ من ألوان الثقافة، وكان عقلا جبّارا، ما كان لتظهر لنا عبقريّته ولا سَعَةُ اطّلاعه لولا القلم الذي أوضَع خلالَه كلماتِه؛ كلماتِه التي ما زالتْ تعيش بعدَ ما يقرب من ثلاثةَ عشر قرنا من وفاته، وهو القائل: “القلم شجرة ثمرتُها الألفاظ”.
ولولا تلك الأهمية للقلم، ما أقسم الله به في كتابه العزيز: {نۤ وَٱلۡقلمِ وما یَسۡطُرون} [سورة القلم: ١]. ولا جعلَه وِعاء العِلم ووسيلته، حين قال: {علّمَ بالقلم} [سورة العلق: ٤].
فيا أيها الكُتّاب، هذا القلم الذي تكتبون به ليس مخلوقا غُفلاً، بل هو في أرقى درجات الخَلْق، ومن الإعجاز فيه أنه لم يتّخذْ شكلا مادّيا، ولا ضربا واحدا، بل تحوّل عبر العصور في ضروب شتى، ولكنه ظلّ نبراس الكُتّاب، ورايتهم التي تخفق بالمجد في سماء دولتهم التي لا تَدُول.

1 تعليق

  1. السعيد السيد شلبي

    مقال جميل من كاتب رائع
    شكراً

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...