مع المتنبي في يومياته

بقلم: أيمن العتوم

| 25 سبتمبر, 2023

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: أيمن العتوم

| 25 سبتمبر, 2023

مع المتنبي في يومياته

إنها النهايات.. كيف يمكن أن يكون شكل هذه النهايات؟ أتمنى لو أنني أدري.. مضت سنون طويلة، طويلة جدا، مذ سمعتُ جدتي تقول لي ذات مساء بارد في غرفة مقرورة بلهجةٍ نافذة حارة: لا تنسَ ثأرك.
اليوم يا جدتي لم أنسَ ثأري، ربما أموت على ذلك، ولكن كل شيء ينتهي على غير ما أردتُ أو أردتِ؛ كل شيء ينتهي… كل شيء… الأحلام الكبيرة والصغيرة، الأيام المجنونة والهاربة، الذكريات الساحرة والمُرّة، والبشر الذين أحببتُهم! لم يكونوا كثيرين.. أنتِ، وأبي الذي لا أعرفه، وزوجتي التي لا يعرفها أحد، أما ابني الوحيد وأخي الأعمى وأختي المسكينة، فصُوَرهم خيالات غائمة تتفلت من ذاكرة متعَبة!
وصلنا إلى مشارف دير العاقول في الخامس والعشرين من رمضان، لاحت لنا الصحراء بِرَكا من الماء الخادع، كان الركب عطشى قد تشققت شفاههم من شدة الشوق إلى الماء، تذكرتُ الأيام التي قطعتُ فيها صحراء سيناء قادما إلى العبد الأسود في سنة 346هـ، ثم هاربا منه عبر الصحراء نفسها في سنة 350هـ، فسال مني القول:
وأَصدى فلا أُبدي إلى الماء حاجة .. وللشـمـس فـوق الـيعـمُلاتِ لُعـابُ
كانت الحياة كلها خِدَعا مستمرة، لم ترفع هذه الحياة القاسية راية الاستسلام مرة واحدة، ظلت تصوّب نحوي رمحها، وتُشهر في وجهي سيفها، وتُفوِّق إليّ نبالها طوال حياتي… اليوم ربما تتحقق الراحة من هذه المجالدة الطويلة التي لم تتوقف! أتمنى أن أرتاح، ولكنني لا أعرف كيف يكون ذلك، ولا على أي وجه.
ها أنذا ومعي أربعة لا أحد سواهم… خادمان يمثّلان وجه الحياة، قاسٍ وليّن، خادع وصادق، وابني الذي أراد أنْ يكون حارسي، ولا أدري مم يحرسني والنوائب لم ترفع عني يدها مذ وُلدتُ؟! وأحد رواتي الذي رافقني في رحلة العودة الأخيرة هذه من أجل أن يكتب عني كلماتي الأخيرة.. كان من قبلُ قد تشاءم حين أنشدتُ وأنا خارج من بلاد فارس:
وأيًّا كنتِ يا طُرُقي فكوني .. أذاة أو نــجــاة أو هــلاكـا
وكان وجه تشاؤمه أن الحياة فيها الأذاة والنجاة، غير أنني جعلت العُسر عُسرين، واليُسر يُسرا واحدا، فأضفتُ إلى الأذاة الهلاك.
وصلنا إلى الماء، ولا يعرف بردَ الماء مثلُ الظمآن، فلما شربنا على عطش وصوم بعد أن غربتِ الشمس، ركنتُ ظهري إلى جدار البئر، وكانت الشمس قد ألقت عليه حرّها، غير أن ما سال من شقوقه لمّا سَقَيْنا برَّده، وما كان لي من حَرّ فإلى برد اليوم، وما كان من تعب فإلى راحة اليوم.. ونام الركب وما نمت، وهجع الصحب غافلين عن عجائب القدر وما هجعت! وكان ما يضجّ في أعماقي لا يسمع صخَبه الذي يُغطّي الآفاق أحد، وما فِيّ من هواجس تثور، وأفكار تتهارش لا يشعر بها أحد، وقد كنتُ في الصّبا وحدي، فما الذي يمنع أن أكون بعد كل هذا العمر وحدي؟.. وزفرتُ بالبيت:
وحيـدٌ من الـخُـلان في كل بلدة .. إذا عظُم المطلوب قَلَّ المُساعِد
وما أريد أن يكون المساعِد في النهايات على أن يقلّ، فإنني أموت إن جاءني الموت دون أن يبكي عَلَيّ أحد.
فلما ضَوّأ النهار، أيقظتُ الركب والشمسُ تلثم الرمال، ومضينا؛ وقال لي عبدٌ: “إلى أين؟”، فقلت: “إلى بغداد”، فقال: “إنها بعيدة”، فقلت: “كانت معي”. وقال لي العبد الثاني: “ما الذي تريد؟”، فضحكتُ ثُمّ بكيت، وقلت: “لو كنت أدري لَمَا نهشني الترحال منذ أربعين عاما”. ومسحت دموعي، فلما رآها ابني، سألني: “ما يُبكيك؟”، فقلت: “كل شيء”.. فلما أخرج الراوية القراطيس، قال لي: “ما أكتب؟”، فقلت اكتب: “ولو كنتُ أدري كم حياتي قَسَمتُها…” فقال: قد قلتَ ذلك من قبل! فنهرتُه: “ما أقولُه ماضيا يصلح أن يكون حاضرا ومستقبلا أيها الغِرّ”.. ومضينا.
فلما هبط الليل في اليوم الثاني، كانت روائح بغداد من الصافية تُشَمّ، وكانت هضبةٌ أقرب منها إلى الجبل، تُشبه (سلمى)، قد أطلّت هي الأخرى، وخلفَ ما يبدو يكون الخافي؛ فقالت لي روحي: “هنا ستستريح”، وقال لي ابني: “المجهول عدوّ، وما لا يُرى يُخاف، ووراء هذه التلّة ما يُشعرني بذلك”.. فقلت وأنا أهز رأسي من هُزء: “ومتى رأيتني أخاف يا بنيّ؟! إنها حياة واحدة، وإنني أريد أن تنتهي على الوجه الذي أريد، لا على الوجه الذي تريد”. ومضينا، فبرز أصحاب الحِلَق من الغيب الذي لا يُرى، وذوو المغافر من وراء المجهول الذي لا يُعلَم، فطعنوا في اللّبّات، فتلقّيتُ طعناتهم كما ينبغي لفارس عظيم أن يتلقّى، وغاص في النحر مع الرمح حقد كل أصحاب المُلك الواجِدين علَيّ أنني نزعتُ منهم مُلكهم الذي ينتهي، إلى مُلكي الذي لا ينتهي؛ وبقيتُ شامخا وما من أبيضَ إلا شرب من دمي، ولا أسمر إلا أكل من لحمي، ولا نصل إلا غاص في ترقوتي:
فـصـرتُ إِذا أصـابتـني سـهام .. تكسَّرتِ النصالُ على النصالِ
ومات كل شيء وكل أحد معي، ولم يبقَ حيًّا إلا شعري؛ فلمّا ضحك الهلال في ليلة القدر تلك، أخذ إليه شعري والخلود، ورحلتُ تاركا كل شيء، وما بقي مما يقول إنني حيّ غير كلماتي التي لا تموت!!

أيمن العتوم

صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...