نسيان الموتى
بقلم: أيمن العتوم
| 7 أغسطس, 2023
مقالات مشابهة
-
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض...
-
شكرا للأعداء!
في كتاب "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وكتاب "سراج...
-
“سيد اللعبة”.. قصة هنري كيسنجر ودوره في الشرق الأوسط (1)
عندما كنت أحضّر حلقة وثائقية من برنامج مذكرات عن...
-
11 سبتمبر.. هل استوعبت أمريكا الدرس؟
بعد مرور أكثر من عقدين على أحداث 11 سبتمبر 2001،...
-
أبناء الله وأحباؤه
يروى أن رجلاً كان لديه خاتم الحكمة، فقرر إذ مرض...
-
الظلم الغربي في دعم العدوان على غزّة
في القرآن الكريم، وردت الإشارة إلى العدوان سبعاً...
مقالات منوعة
بقلم: أيمن العتوم
| 7 أغسطس, 2023
نسيان الموتى
أتذْكُر ذلك الشاب الذي التقيناه في رحلة جماعية الصيف الماضي؟ كنا أكثر من ثلاثين، ولكنني رأيته مختلفا، كان لعينيه بريق يخبئ حكايات غامضة، وكان قليل الكلام كثير التبسم، كنا نشعر جميعا نحوه بالود، شيء ما يدخل القلب فيملؤه بالدفء، شعور لا نجد له تفسيرا حين نلتقي بمثل هؤلاء الأشخاص!.
– أتذكّره جيدا، ماذا تريد أن تقول؟
– لقد مات قبل أسبوعين، بكى عليه أصحابه، بعضهم استمر بكاؤه يوما أو يومين، وبعضهم ساعة أو ساعتين، وبعضهم زمّ شفتيه؛ واليوم نُسِي كأنه لم يمت.
********
– أتذْكُر أستاذنا الذي درَّسنا مادة الفيزياء في الجامعة؟. كانت عيناه زرقاوين كزرقة سمائنا الصافية، وضحكته تكشف عن صف منتظم أنيق من اللآلئ المنضَدّة، وقد وخط الشيب بعض شعره فصار أشهب فزاده جمالا؛ وكان قاسيا علينا إلى حنان، وشديدا علينا إلى رقّة، حتى كدتُ أنا أن أرسب في المادة.
– أتذَكّره تماما رغم مرور أكثر من عشرين عاما على ذلك.. ثم ماذا؟
– لقد رأيت له فيديو مع طلابه الذين جاؤوا من بعدنا بأكثر من خمس عشرة دفعة، وهم يحتفون بأستاذهم الجميل الودود، ويقتسمون كيكة في حُبّه.
– ثم؟ إلامَ تريد أن تصل؟
– لقد مات.. الطلبة الذين احتفَوا به، هم الذين نعَوه، مات هكذا وحيدا!. انتحبت عليه بعض الطالبات اللواتي أحببنه ساعة سماعهن خبر نعيه ثم نُسِي؛ نُسِيَ تماما، كأن ثلاثين عاما من تدريسه في تلك الجامعة لم تكنْ سوى رماد عصفتْ به هبّة ريح واحدة فلم تُبقِ على شيء.
********
– أتذكرُ الشاعر الذي كان يملأ صوته الفخم الجهوري جنبات القاعة، الشاعر الذي كانت تهتز له الجدران قبل الأفئدة إذا أنشد؟ كان يعرف كيف يُلهِب العقول إذا شاء، ويرقّق القلوب إذا نوى؛ أنا بالنسبة لي دمعت أكثر من مرة وأنا أستمع إليه.
– أذكره، لقد كنا نذهب معا إلى تلك الأمسيات الشعريّة؟ لكن ماذا تريد من وراء هذا القول؟
– لقد مات يا صديقي.. لم أعرف أنه مات إلا من خلال الجريدة؛ مضى كأن كلماته كلها حجارة تساقطت في ذلك المساء الخريفي على قبره في تلك الحفرة التي بلّلها مطر الليلة الفائتة، وانتهى كل شيء.
********
– أتذكرُ (جَمال)؟ جمال يا صديقي؛ كان يجلس في الدُّرج الثاني من يمين الصف، وكان أسمر، أتتذكّره؟
– آه تذكّرتُه، لقد كان ذكيا هادئا، أسمر، ويُتبِع كل سؤال يسأله للأستاذ بضحكة.
– تماما هو.
– ولكنْ لماذا تتذكّره اليوم وقد كان زميلنا في مقاعد الدراسة الإعدادية قبل ثلاثة عقود أو أكثر؟
– يا صديقي، إنه الموت، لم تدرك بعدُ لماذا أسألك هذه الأسئلة كلها؟ هؤلاء الناس الذين كانوا لصيقين جِدا بذويهم نهش الموت عافيتهم، واختطفهم من بين أحضان عائلاتهم.
– فهمت يا صديقي، ولكنْ ماذا حدث مع جمال؟
– ذهب في رحلة استجمام إلى (العقبة)، كان لؤلؤة سوداء، أحب البحرُ أن يحتفظ به لنفسه، فجذبه إلى قاعه ولم يُخرجه إلا بعد أربعة أيام! لقد بكيتُ أنا نفسي عليه كثيرا، وشعرت أن الدنيا كلها قد أظلمت في وجهي، وامتلأتُ بالخوف والغضب معا.. والآن ماذا؟ نسيته كأنه لم يكن في حياتي يوما ما.
– أهكذا ببساطة؟
ـ نعم، هكذا ببساطة؛ إنه داء نسيان الموتى.
********
ـ أتذكر تلك المرأة (أم قاسم) التي كانت تبيع الحليب في أوائل التسعينات، كانت تأتي من قرية بعيدة عن (إربد)، تصحو في الفجر تحلب الشياه، ثم تخرج على حمارها إلى حَيّنا، وكانت أمي دائما تشتري منها (دُبّية) تعدل رطلا، وإذا صدف أن أمي لم تكن في البيت ذلك الصباح، فإنها كانت تترك لها ثمن الحليب تحت قُوّارة الزرّيعة، وهي تعرف ذلك.
– أتذكّرها.. كانت تلبس مدرقة بالية، وتلفّ على رأسها قمطة قد بهتَ لونُها من أثر الشمس عليها.
– هي هي.
– ما بالها؟
– انسكب الحليب الذي كانت تحمله.
– ولْينسكبْ، ما شأني أنا، لماذا تقول لي ذلك؟
– أعني أنها ماتت يا صديقي، فأنتَ تعلم أنّ الحليب المنسكب لا يُنتفَع بقطرة منه، وأن البكاء عليه لا يُعيده إلى الجرّة.
********
يا صديقي، إن نسيان الموتى بهذه السرعة أمر عجيب، يطعنك طعنة نجلاء “تقذف الزّبَدَا”، وتتعطل بسببه الدُّنيا، أو هكذا يُخيّل إلينا، ثم تعود الأرض إلى دورتها، كلنا نعود إلى ما ألفناه في حياتنا، نلهث خلف سراب، أو نحوم في دوّامة، والموت ينظر إلينا هازِئا، يلتقط من هذا التيار البشري الراكض ما شاء متى شاء.. ثم نحزن، فينطفئ الحزن بعد برهة، ثم يلتقط لقمة أخرى منا، فنحزن من جديد، ثم تدور الدائرة، فننسى.
إن نسيان الموتى يبدو أمرا مستحيلا لعزيز فقدناه، لكنه ـ يا للعجب ـ دائما ما يحدث، وسرعان ما ننسى!.
صدر لي خمسة دواوين وسبعَ عشرة رواية
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
سقوط حلب.. في سياسة الحمدانيين
شهدت مدينة حلب السورية الشهيرة حدثًا بارزًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، تمثل في سقوطها بيد العسكرة الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الهجري، وجاء في إطار الصراع السياسي والعسكري المستمر بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الحمدانية العربية، التي كانت تسيطر على...
الناقد ومراوغة النص..
استكشاف حالة التقييم المراوغة.. تلك التي ترفض الانصياع للقانون الأدبي لتكون حرة طليقة لايحكمها شيء.. وتحكم هي بمزاجها ما حولها.. تأطيرها في قانون متفق عليه لتخرج من كونها حكما مزاجيا، وتدخل عالم التدرج الوظيفي الإبداعي الذي نستطيع أن نتعامل معه ونقبل منه الحكم على...
هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها؟
مع تزايد الدعوات في واشنطن لكي تتولى أوروبا مسؤولية دفاعها وأمنها، ترتجف بروكسل خوفًا من النتائج.. إن التحول في الكيفية التي ينظر بها كل من جانبي الأطلسي إلى موقف الآخر من شأنه أن يوفر الدفعة التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي لكي يصبح حليفًا أقل اعتمادًا على الولايات...
0 تعليق