هكذا هي أخلاق الأنبياء

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

هكذا هي أخلاق الأنبياء

النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يغضب لنفسه طيلة حياته، وذاك هو الرقي إلى قمة الأخلاق، ليس يقدر عليه أحد سوى محمد، صلى الله عليه وسلم، صاحب السيرة العطرة، المليئة بكثير من المواقف الحياتية التي لو واجهها أحد غيره -صلى الله عليه وسلم- لغضب لنفسه، ولو على الأقل في بعض تلكم المواقف، التي كان احتمالها خارج نطاق الصبر والتحمل البشري.
مواقف رأس النفاق عبد الله بن أُبي معه مشهورة، حتى إنه في واحد من تلك المواقف، يتطاول على النبي الأكرم ويصفه بالذليل، فيندفع ولده عبد الله غاضبا لرسول الله، يريد أن يقتل أباه بنفسه، لكنه -صلى الله عليه وسلم- رفض بشدة، رغم الضرر البالغ لتصريحات ابن سلول على الإسلام والمسلمين في تلك الفترة، وهم بعدُ في فترة بناء، وفي بداية طريق طويل صعب، وكان من شأن أي تصريحات مسيئة ومشوهة لرأس الدولة حينذاك، أن تؤثر في النفوس؛ لكن الأمر لا يُدار كما هو الحال في أيامنا هذه، بل يحتاج قبل كل شيء إلى أخلاق الأنبياء.
ما فائدة السماح بقتل منافق، ولو كان مؤذيا للإسلام والمسلمين، أو تصفية منافق آخر مدفوع لتشويه سمعة رأس الدولة الذي كان يتمثل في الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام؟ الفائدة صفر دون أدنى ريب؛ ولهذا تجد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف المتوتر لم يغضب لنفسه، ولم ينصت لمحفزات الغضب فيسمح لولد عبدالله بن سلول أن يقتل أباه، لأنه لا فائدة تُرتجى من تصفية ذاك المنافق، بل قال له: لا، ولكن برَّ أباك، وأحسن صحبته!.
ومثل ذلك نجده في موقف آخر، إذ يرد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- طلب الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقتل مسلم اتَّهم رسول الله في أمانته، ويقول له: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
التوجيه فن ومهارة
التوجيه الصحيح لكيفية التعامل مع المخالف أمر بالغ الأهمية، وهو ما نفتقده اليوم عند كثيرين من أصحاب القرار والسلطان والبأس في كثير من الأقطار؛ إن أسهل ما يمكن أن يتخذه أي صاحب قرار اليوم مع مخالفيه أو منتقديه، هو قهرهم بأي وسيلة ممكنة أو منعهم مما هم فيه وعليه، أو سجنهم أو نفيهم أو حتى قتلهم؛ لكن الصعوبة والمشقة والتحدي الكبير في مثل تلكم الحالات، تتمثل في الصبر على المخالف، ومناقشته ومحاورته، فلعله يتغير أو تتغير الظروف المحيطة به، فإما أن يميل نحوك أو يكف شره عنك، وكلاهما خير.
إن أي متأمل للقصتين أعلاه، سيجد أن ما قام به ابن سلول على سبيل المثال، هو أشبه بما نسميه اليوم زعزعة الصف الداخلي أو إثارة الفتنة، طائفية كانت أم عرقية أم فتنة أخرى مما شابه ذلك، وهذا عادةً يستوجب عقوبة مغلظة، كالاعتقال والسجن مثلا؛ لكن المنطق النبوي يختلف، ومدى رؤية الأمور عند صاحب الأمر والقرار يومها أوسع وأبعد بكثير من أي صحابي آخر، مهما كان مقرَّبا إليه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يستخدم النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صلاحياته لردع رأس المنافقين يومذاك، ولا لإلجام الآخر الذي يتهم رأس النظام أو رئيس الدولة في أمانته، مع أن إشارة منه لأي صحابي يومها كانت كفيلة بإنهاء حياتهما.. لكنه نبي قبل كل شي، وهو بعد ذلك رئيس دولة وصاحب دعوة، يرى ما هو أهم من جز عنق منافق ربما كان الجميع سيهللون لموته بسبب ما كان يصدر عنه من أذى للمسلمين وإثارة للفتن بينهم.
ابحث عن مساحات الخير
في هذه الأيام، حيث الظروف التي تعيشها الأمة، أرى حاجة كبيرة ومتعاظمة للزعماء والقادة، والمديرين والرؤساء، وغيرهم من أصحاب القرار والسلطان، إلى الاقتداء بخير البشر محمد -صلى الله عليه وسلم- في كيفية التعامل مع المخالف؛ ذلك أن كل مخالف، مهما بلغ من الشر والسوء، لابد أن تجد عنده هامشا من الخير، وهي المساحة المطلوبة التي نبحث عنها في حالات التعامل مع المخالف، والتي قد نغفلها حينا أو نتغافل عنها أحيانا أكثر لحاجات في النفوس عديدة.
من تلك المساحة أو بقعة الضوء -إن صح وجاز لنا التعبير- يمكننا الانطلاق نحو التغيير ونشر الضياء والخير، لأنها مساحة راسخة ثابتة يؤمل منها الخير، عكس تلك المساحات الشاسعة الظاهرة في المخالف، والتي لا يمكنك الانطلاق منها لعدم ثباتها.
هكذا كان النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- ومثله إخوانه الأنبياء الكرام وأصحاب الدعوات العظيمة.. كانوا يبحثون عن جوانب الخير في الآخرين، مهما تضاءلت فرص العثور عليها، فالبناء على تلك النقاط الخيِّرة أو مساحات الضوء -وإن بدت ضيقة- أمر مُحبّذ، بل يُؤمل ويُرجى من البناء عليها الكثير الكثير. وهكذا كان نهج الأنبياء والمرسلين، الذي يجب أن يكون عليه كل من أراد السير على دربهم في نشر الخير للآخرين.. الدروب أكثر من أن نحصيها، لكن لا أحد يضمن لك مدى صلاحيتها وتأثيرها، عكس الدرب النبوي أو دروب الأنبياء الكرام، الموثوق فيها تمام الثقة.
الأمر لك كزعيم أو قائد أو مسؤول، لتختار ما تشاء، فانظر ماذا ترى.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...