الضحالة والمعرفة السائلة
بقلم: نبيل البكيري
| 5 يوليو, 2024
مقالات مشابهة
-
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب...
-
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ...
-
العالم الفكري للروائي عبد الرحمن منيف
الرمز في الشخصيات والزمان والمكان توثيق تاريخي...
-
فرية “النامي” وعملية غليلوت
الفرية التي جاء بها مشعل النامي على نساء غزة،...
-
هاريس ضدّ ترمب: ماذا أرى في الكرة البلورية؟
يتذكّر بوب وودورد Bob Woodword، الكاتب الصحفي...
-
مع مذكرات وزير إعلام عبد الناصر
تذكرت أنني اشتريت نسخة من مذكرات محمد فايق، وزير...
مقالات منوعة
بقلم: نبيل البكيري
| 5 يوليو, 2024
الضحالة والمعرفة السائلة
عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة، التي فتحت آفاقاً للتفكير باعتمالات الحداثة وسيولتها، في هذه اللحظة البشرية المقلقة، وتحولاتها المضطربة والدائمة.
في تقديمه للنسخة العربية يصف باومان السيولة بأنها حالة مستمرة من إذابة وتمييع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الكيانات والقيم التي تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها بشكل ثابت، وهي البنى الاجتماعية، والروابط الإنسانية، والنماذج السلوكية، والأخلاق والقيم وما إلى ذلك، وتكون إذابتها عن طريق التحديث المستمر لها، التحديث الأشبه بالوسواس القهري.
وانطلاقاً من هذا التعريف الزيجموني – إن صح التعبير- قد يتأتى لنا أن نصك مصطلحا لظاهرةٍ غدت اليوم مقلقة وبارزة، وهي ظاهرة الضحالة السائلة، وتأتي كنتاج للسيولة المعرفية أو المعرفة السائلة، وهي التدفق الهائل للمعرفة وأدواتها، الذي أحدثته ثورة الاتصال والمعلومات، والتي – بقدر ما قربت المعرفة وسهلتها وجعلتها في متناول الجميع- فتحت الباب واسعاً للجهلة وأشباه المتعلمين والأميين أن يقولوا ويفتوا في كل شيء، بغير علم ولا وعي بما يقولون.
إن ظاهرة السيولة المعرفية (أو السهولة في التحصيل المعرفي) التي نعيشها، وما تُنتجه من تداعيات كبيرة على كل شيء من حولنا، خطورتها اليوم في أنها تعيد رسم الواقع الجديد وفقا لتصورات ورؤى تنتج نفسها بنفسها، ولم تعد محكومة بثوابت المجتمع وقيمه، بل هي رؤى وتصورات سائله لا تقف عند حد ثابت ومعلوم، بل هناك كل يوم شيء جديد خارج السياق والقيم.
لقد شكل الفضاء المفتوح اليوم، بمختلف وسائل اتصالاته وتواصله، عالماً واسعاً ومفتوحاً يدلف إليه الجميع، وأي واحد يقول فيه رأيه كيفما كان رأيه هذا، سقيماً كان أو طفولياً أو سطحياً وسخيفاً أو علمياً! إن هذا الوضع الذي مكّن كل واحد أن يقول ما يقول بالحق أو الباطل هو واقع خطير، يسهم في تفشي حالة من الضحالة التي تساعد التفاهة على الانتشار على حساب حالة الرشد والحكمة والعلم.
ووضع كهذا لا شك أنه يمثل تحديًا كبيرًا للواقع الاجتماعي والمعرفي والثقافي اليوم، بل للفضاء العام والعمومي “الهابرماسي”، حيث طغيان الجهل والضحالة المعرفية على كل ما سواهما، وكل ذلك يأتي ضمن شيوع فكرة المعرفة الديمقراطية، وسهولة الوصول إلى المعرفة ومصدرها، وهذا يساهم في تسطيح المعرفة لا ضبطها في حدود معينة، لأن المعرفة أصبحت في عالم اليوم بدون أي ضوابط وحدود، فرأس المال المعرفي لكل أحد اليوم ليس تخصصه وقراءاته وتأملاته العلمية، وإنما هو امتلاكه لحساب في وسائل التواصل، وجهاز تلفون وباقة إنترنت.
صحيح أن الفيلسوف يورجان هابرماس بإشارته إلى المجال العام أو الفضاء العمومي كان يقصد مجال النقاش العام السياسي، وطبيعة تركيبته الطبقية والثقافية، لكن الفضاء العام اليوم تداخل فيه السياسي والثقافي والديني، وأصبح حتى من لم يكن لهم رأي يمتلكون اليوم رأياً، كيفما كان هذا الرأي، فالمهم أنهم يدلون بآرائهم في كل شاردة وواردة، ما يسهم في تسطيح المعرفة لا شيوعها وانتظامها، وهذه من أهم مخاطر عصر السيولة المعرفية، وأهم صورها اليوم هي الضحالة المعرفية.
ففي تاريخ الفكر الإسلامي دار نقاش حول هذا الموضوع، أي قضية الفضاء العام أو الرأي العام وطبيعة تشكلها، باكراً قبل عصر التكنولوجيا المفتوحة، والتواصل الرقمي واللحظي الذي اختزل الزمان والمكان بالسرعة وأدواتها؛ فتم الحديث عن الجمهور كثيراً في المسائل الفقهية والكلامية والعقائدية، وكان المقصود بالجمهور أصحاب العلم والرأي السديد وليس عموم الناس، باعتبار أن المعرفة العلمية معرفة نخبوية محصورة في النخبة العلمية والسياسية للمجتمع، وكل من يحيط بهم من طلاب العلم، ما جعل المعرفة العلمية منضبطة.
أما اليوم، في زمن السيولة المعرفية المنفلته، فقد ذابت الحدود الفاصلة بين النخب العلمية والمثقفة وما سواها من عامة الناس، أي العوام الذين ألجمهم الغزالي عن علم الكلام بحسب كتاب له بهذا العنوان، ولهذا أصبحت الحدود اليوم سائلة في ظل قدرة أي أحد على قول رأيه كيفما اتفق، في الزمن الإلكتروني الذي سيّل وسهّل هذا الوجود والحضور الغوغائي – إن صح التعبير- لكل واحد، ما انعكس سلباً على قيمة المعرفة التي كانت محصنة ومنظمة، ولا تُتاح إلا لمن أرادها وأقبل عليها ولم يُزهده عنها شيء.
فـ”متاحيّة” المعرفة اليوم، لا تعني أن المعرفة أصبحت سهلة، بل أن أي واحد يمكنه الخوض فيها بلا أي أدوات علمية ومنهجية؛ فتوفر وسائل المعرفة لا يعني سهولة الوصول إلى المعرفة، بل إن ذلك لا يكون إلا بامتلاك أدواتها المنهجية والبحثية، والعكوف عليها طويلاً بحثاً وتعليماً وتنقيباً وفهماً، حتى الوصول إلى مرحلة هضم هذه المعرفة وفهمها والقدرة على الإسهام فيها.
فإذا كانت القراءة الكثيرة دون فهم ولا وعي ولا هضم لما يُقرأ لا تشكل فارقاً لصاحبها، الذي يتحول مع كثرة القراءة إلى أشبه بالببغاء، فيردد ما يقرأ دون أن يفقه شيئا مما يقوله ويردده، فكيف بمن لا يقرأ أصلاً أو لا يفقه شيئا مما يقرأ؟. هنا ستكون الكارثة مضاعفة، وفيها مزيد من الضحالة والتسطيح، وتُنتج ضجيجاً مربكاً ومشوشاً للمجتمعات، ثم لا نرى لها أي أثر في مسار الفكر والأفكار، والتنوير الفكري والوعي المعرفي، الذي لا يتحقق إلا من خلال تأهيل علمي واصطبار زمني في عالم القراءة والتأمل والأفكار، حتى تينع ثمار القراءة والدرس والتعلم وعياً وسلوكاً وقيماً. صحيح أننا محكومون اليوم بهذه التطورات المتسارعة في عالم الوسائل والأدوات والتطورات التكنولوجية المتسارعة، والتي لا يمكن التحكم بها، وهو ما يتطلب مزيداً من التركيز على كثير من المشكلات والقضايا، والبحث عن حلول لها، وخاصة ما يتعلق بالنظام التعليمي والمعرفي تحديداً، وهو الذي أصبح اليوم مشاعاً وبعيداً عن أي رقابة أو تحكم أو سياسة تعليمية متبعة، ما يضاعف التحديات والجهود أمام إنتاج وعي معرفي منضبط يساهم في تبطيء حالة السيولة القائمة لكل شيء، وتعيد إنتاجها بطريقة لا تؤدي إلى مزيد من الضحالة المتفشية، التي قد تقود المجتمعات إلى كوارث كبيرة ومدمرة، تهدد مستقبل هذه الأجيال على سطح هذا الكوكب.
مهتم بالفكر السياسي الإسلامي
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
معضلة الإعلام عن غزة بين الحياة والموت
منذ طوفان الأقصى، ومواقع التواصل تحتفي بأخبار إبداعات أهل غزة، ومبادراتهم التي تنهض وسط الإبادة والحصار، وتطرق جدران الخزان لتبعث برسائل التحدي، بهدف إظهار تمردهم على الواقع الصعب الذي فرضه الاحتلال، وإعطاء الأمل للعالم في أن هذه الثلة الصابرة المحاصَرة المرابطة قادرة...
“انفجار جمجمة” على الحدود المصرية الليبية!
في روايته البديعة "انفجار جمجمة"، رسم الأديب النوبي الراحل "إدريس علي" صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية "بلال"، الذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة "إدريس" نفسه. "بلال" باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته.. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة "التهميش"، أحب...
نموذج البطل
بعضُ الحوادث لا يُمكن أنْ تجتازَها بسهولة، تظلّ طعنةً في القلب، وحربةً نافِذةً في الرّوح، ومع أنّ الدّموع قد تجفّ، والأيّام قد تمرّ، والعهود تتقادَم، إلاّ أنّ جرحًا ما يظلّ طريًّا نديًّا مهما غَبَرَتْ عليه السّنون. كيفَ تُنسَى وتلك الصُّورة الأُسطوريّة لرحيلك عصيّةٌ...
الاستغراق في الماجريات…