الحبُّ ومَجانينُه

بقلم: أيمن العتوم

| 14 أغسطس, 2023

بقلم: أيمن العتوم

| 14 أغسطس, 2023

الحبُّ ومَجانينُه

ليس للحب تعريف واحد، لا عند العرب وآدابهم، ولا عند غيرهم؛ لا في الكيمياء ولا في الطب، لا في الحال ولا في المقال؛ إنه واحد في كثير، إنه معنىً يمكن أن يُقال بألف طريقة وطريقة، ويُعبَّر عنه بعدد لا ينتهي منها.
هذه المقالة لا تدّعي أنها تحيط به وصفا ولا قولا، لكنها وسيلة إلى معرفة ما يعتقده الشعراء في الحب، وسأختار الوقوف بأبواب عدد معين من الشعراء من أجل أن أطرقها عليهم فأسألهم: ما الحب؟.. أعرف أنهم لن يجيبوني إلى ما دعوتهم إليه، بل سيكتفون بالنظرة الساخرة أحيانا، وبالنظرة المندهشة أخرى، وبالحانقة ثالثة؛ وسيقول بعضهم -إن كان لطيفا- “طرقت غير الباب”، وسيغلقُه آخرون في وجهي، إن لم يصفقوه صفقا!.
ولكنْ ما الحب؟ تلك الشعلة التي تتّقد في فؤاد صاحبها فتشغفه، ثم تحرقه، ثم تتركه رمادا؛ ولأجل ذلك كان الحب حالة رومانسية أكثر منه وجودا واقِعيّا.. إن الحب يغتذي على الهجر والفراق والبُعد، ويقوى بالحرمان والصَدّ، ولو أن محبّا نال الوصل وقُبِل لانطفأ مع الزمن حبه، ولذا؛ فالكثرة الكاثرة من شعراء الغزل هم من المحبين الذين لم يحصِّلوا من محبوباتهم شيئا، وكوت نار الشوق قلوبَهم فلم تبرد لهم جارحة، وعطشوا ولم يَرِدوا، وجاعوا ولم يأكلوا.
مع الاحتراز أن ابن الدُّمينة كان يعرف أنني سأقول هذه القولة، فأراد أن يُفنّدها في أن الحب هو الحب، لا حل له بالقرب ولا حل له بالبعد، وأن دوامه لا يُورِيه اللقاء، ولا يؤججه الفراق:
وقـد زعـمـوا أن الـمحـب إذا دنـا .. يملُّ وأن الـنأْي يشـفي من الوجـد
بِـكـلٍّ تداويـنا فـلم يُـشْـفَ مـا بـنـا .. على أًن قرب الدار خير من البعد
على أن قـرب الـدار ليـس بنـافـع .. إِذا كان مـن تـهـواه ليس بـذي وُدِّ
والحب عِفّة وذِمّة.. فهذا كُثيّر عزّة كان عفيفا في حبه، وقد قيل له: هل نلت من عزة شيئا طول مدتك؟ فقال: لا والله، إنما كنت إذا اشتد بي الأمر أخذتُ راحتَها فإذا وضعتُها على جبيني وجدتُ لذلك راحة؛ بل إن هذا الحب دعاهم إلى العفّة حتى بعد أن تزوج كل من الطرفين، وذهب في حال سبيله، فهذه ليلى الأخيلية حين وجدت من حبيبها توبة بن الحُمَيِّر شيئا ما يتنقّص من قدر عفّتهما، قالت له:
وذي حـاجة قــلـنـا لـه لا تَـبُــح بـهــا .. فـلـيـس إلــيـهـا مــا حـيـيـتَ ســبـيـل
لـنـا صـاحـب لا يـنـبـغـي أَن نـخونه .. وأنـــتَ لأُخـــرى فـــارغ وحــلــيــل
والحب جنون، ومجانين الحب كثيرون، أشهرهم مجنون ليلى (قيس بن الملوّح)، ومن مظاهر جنونه أنه كان يُقبّل جدران بيت ليلى، أو الجدران التي في الحي الذي تبيت فيه ليلى:
أَمُرُّ على الـديار ديار ليـلى .. أُقبِّل ذا الجدار وذا الـجدارا
وما حب الديار شغفْنَ قلبي .. ولكنْ حب من سكن الديارا
ومظاهر الجنون عنده لا تتوقف عند تلمّس الجدران والهُيام بها، بل تتعداه إلى ما يشبه الشرك صلاة إليها، وإن كان في الشعر مجاز واستعارة، فتراه يقول:
أَرانـي إذا صـليت يـَمَّــمـتُ نحـوهـا .. بوجـهي وإِن كـان الـمُصلى ورائـيا
ومــا بِـيَ إِشــراك ولــكـن حــبـهــا .. وَعُظمَ الجوى أعيا الطبيب المداويا
بل إن جنونه بها جعله يرفعها إلى مقام المسيح الذي كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحطّ الحمام على كتفيه، فتراه يقول:
فـلو أنـها تـدعـو الـحمـام أَجـابـهـا .. ولـو كـلَّـمـت مـيــتـا إذاً لـتـكـلّـمـا
ولو مسحتْ بالكف أَعمى لأَذهَبَت .. عـمـاه وشـيـكـا ثم عـاد بلا عـمى
وثاني هؤلاء المجانين (قيس) آخر، هو قيس بن ذريح الملقب بـ (مجنون لبنى)، وهذا أخف جنونا من صاحبه، فلم يفعل سوى أن يجثو على قدميه، ويُقبّل التراب الذي وطئه نعل حبيبته، مع أن ديار محبوبته ذاتها، لكثرة عاذليه وشانئيه، صارت مكروهة عنده؛ غير أن كل مكروه من أجل الحبيب محبوب:
وما أَحبـبت أرضـكم ولـكـنْ .. أُقبِّـل إثـر من وطئ الـترابـا
لـقد لاقـيـت من كَلـَفي بِلُبنى .. بَلاءَ مـا أُسـيغَ بـه الــشرابـا
إِذا نادى المنادي باسم لُبْنى .. عَيِـيتُ فما أَطيـقُ له جوابـا
وثالث هؤلاء المجانين هو عروة بن حزام الذي أحب عفراء، وتمثّل به المتنبي في البكائين على محبوباتهم، حين قال:
ذِكـرُ الـصّـِـبـا ومــراتـع الآرام .. جلبَتْ حِمامي قبل وقت حِمامي
فـكأن كـل سـحابة وَكَـفـَتْ بـهـا .. تبـكي بعيـنَيْ عــروة بن حـزام
وجنون عروة تمثل في أنه يتمنى أن تقوم القيامة بأسرع ما يمكن، وأن يتم حشر الناس للحساب!. ومع أن الموقف مهول ومرعب، إلا أنه عنده غير ذلك، فهو الذي سيجمع بينه وبين حبيبته، إذ “يُحشَر المرء مع من أحب”، ولا أحد في الأرض كلها مشغوف بحبيبته مثله، فاسمع إليه يقول:
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني .. وعـفـراءَ يـوم الـحشـر ملـتقـيان
فـيا لـيت مَحْـيانـا جميـعا، وليتنا .. إِذا نـحـن مِـتْـنـا ضَـمّـنا كـفـنان
ومجانين الشعراء ليسوا مجانين إذا كان من تعريفات الحب: (غياب العقل)، لكنه على أية حال جنون مُحبَّب، يُنتِج مثل هذه المعاني التي لا يجود بها إلا هذا النوع من المشاعر.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تسليح إسرائيل من مغارب الأرض عبر مشارقها!

تسليح إسرائيل من مغارب الأرض عبر مشارقها!

في الوقت الذي تسمح فيه قناة السويس بعبور سفينة حربية إسرائيلية، متذرعة بمعاهدة القسطنطينية الموقعة عام 1888، تقوم إسبانيا -وللمرة الثانية- بمنع رسو سفينتي أسلحة في طريقهما إلى إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية محملتين بالأسلحة، لتستقبلهما المملكة المغربية! نعم...

قراءة المزيد
همام ليس في أمستردام!

همام ليس في أمستردام!

لم يكن استدعاء في محله! فعقب الموقف البطولي لأحرار المغرب في العاصمة الهولندية "أمستردام"، استدعى البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي اسم فيلم "همام في أمستردام"، ولا يمكن قبول هذا الاستدعاء إلا من حيث أن "القافية حكمت"، فلم يكن هذا الترويج لفيلم خفيف كالريشة، إلا في...

قراءة المزيد
400 يوم من الحرب

400 يوم من الحرب

كيفَ تطحنُ الآلة العسكريّة في شعبٍ أعزلَ على مدى أربعمئة يومٍ ويبقى أهلُها على قيد الوجود؟ إنّ حريقًا واحِدًا شَبّ في روما أيّام نيرون قضى على أكثر من عشرة أحياء في روما من أصلِ أربعةَ عشرَ حَيًّا ودمّر كلّ ما فيها ومَنْ فيها. ليسَ صمودًا اختِيارًا وإنْ كان في بعضِه...

قراءة المزيد
Loading...