النّخبة مفهومًا في القرن العشرين.. إخضاع وطبقيّة

بواسطة | يونيو 2, 2024

بواسطة | يونيو 2, 2024

النّخبة مفهومًا في القرن العشرين.. إخضاع وطبقيّة

إنَّ المفكّر الفرنسي سان سيمون، المتوفّى سنة 1760م، يعدّ من أوائل من وضع الخطوط الرئيسة لتحليل مفهوم النُّخبة من خلال تحليل المجتمع الفرنسي؛ ويوضّح سيمون أن مفهوم النُّخَب يشمل كل النخب العلمية والمهنية والفكرية في المجتمع، ويشدّد على أهميتها وضرورة وجودها.. غير أنّ مفهوم النخبة برز بشكل واضح وقوي في ثلاثينيات القرن الماضي، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة.

وقد عرّف دينكن ميشيل النخبة في معجم علم الاجتماع بأنها: “جماعة من الأشخاص يتم الاعتراف بعظَمة تأثيرهم وسيطرتهم في شؤون المجتمع، حيث تشكل هذه الجماعة “أقلية حاكمة” يمكن تمييزها عن الطبقة المحكومة وفقًا لمعيار القوة والسلطة، بدلالة تمتّعها بسلطان القوة والنفوذ والتأثير في المجتمع أكثر مما تتمتع به الطبقة المحكومة فيه، وذلك بسبب ما تمتلكه هذه الأقلية من مميزات القوة والخبرة في ممارسة السلطة والتنظيم داخل المجتمع، الأمر الذي يؤهّلها لقيادته. أمّا المفكر الأمريكي روبرت داهيل فإنه يعرّف النخبة بأنها: “مجموعة من الأفراد الذين يشـكّلون أقليـة وتسـود تفضيلاتهم عند حدوث اختلاف التفضيلات المتعلقة بالقضـايا الأساسـية فـي المجتمع”.

عند تتبُّع عموم التعريفات المعاصرة لمفهوم النخبة نجدها تتحدث عن طبقة من أفراد المجتمع، لها تأثيرها الكبير في الحياة السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية والثقافية للدولة والمجتمع.

النُّخَب.. إخضاع وطبقية

وهذه النُّخب، على اختلاف مراحلها الزمانية وتوزّعاتها المكانية، هي التي ترسم للمجتمع توجهاته المختلفة بطريقة تبدو ناعمة ومكسوّة بالشرعيّات المختلفة في الظاهر، غير أنها مستبدة وغير متسامحة في حقيقة الأمر. فهي تُخضع المجتمع لتوجهاتها هي، بما تملكه من نفوذ معنوي ومادي، وامتيازات تتيح لها التأثير الواسع، وهذا يجعل المجتمعات العريضة تنطبع بطابع النخب وتوجهاتها.

فمفهوم النُّخبة يضفي على هذه الجهات شرعيّة التأثير ويزرع الموثوقية على الرغم من هلاميّة هذا المفهوم، الذي ينتج عنه هلاميّة هذه الشريحة المؤثرة. كما إنَّ مفهوم النخبة يقسم المجتمع إلى أقلية مؤثرة وأكثرية خاضعة لهذا التأثير، ولئن كانت هذه هي طبيعة الحياة وفطرة المجتمعات، فإن ما ليس طبيعيًّا هو عدم وضوح هوية هذه الأقلية وهلاميّتها؛ وهذا المفهوم إن لم يتمّ ضبطه فإنه سيؤدي إلى حالة من الطبقيّة المضرّة بالمجتمع، بخلاف المقصود من وجودها التخصصي النافع.

فهناك فرق كبير بين النّخب التي تشكّل أقلية مؤثرة في المجتمع من باب الشعور التخصصي والمسؤولية في التغيير، وبين النّخب التي تشطر المجتمع إلى قسمين، وتستعلي فيه الأقلية على الأكثرية، وتطلق فيه النّخب على ذاتها ألقابًا راقية بينما تطلق على الأكثرية ألقابًا وأوصافًا تُشعرهم بالدونيّة. ومن ذلك أن تسمّي النُّخب نفسها “العلماء” أو “الخواصّ” أو “رجال الدين” أو “أهل الحلّ والعقد” أو “الأعيان” أو “النبلاء” أو “علية القوم” أو “أهل البلاط”؛ بينما تسمّي الأكثرية “العوامّ” أو “الدهماء” أو “الرعاع” أو “البروليتاريا” أو “العبيد” أو “الغوغاء”.

فهذه الطريقة تنمّ عن استعلاء على الأكثرية وازدراء لها، ما يعمّق الشرخ بين الفريقين، ويحول العلاقة التي ينبغي أن تكون علاقةً إيجابيةً تكامليةً إلى علاقة تشوبها المشاعر السلبية والبغضاء الدفينة، التي تورث مع الأيام كفر الأكثرية بهذه النُّخب على اختلافها.

إن الفوضى التي اكتنفت مفهوم النخبة في إطلاقاته، والهلامية في مدلولاته، ستزيد في انقلاب الصورة من تأثير بين شريحتين متكاملتين في بناء المجتمع إلى تنافر نَكِد بينهما.. وهذا التمايز الطبقي المعرفي لا تقلّ آثاره سوءًا عن التمايز الطبقي الاجتماعي والاقتصادي، بل هو مقدمة لكل ذاك؛ فهل تنبّه “النّخبويّون” الغافلون؟

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...