سقوط كهنة المعبد

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 21 يناير, 2024

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 21 يناير, 2024

سقوط كهنة المعبد

من الواجبات الجلية الواضحة على كل من يعتلي منبراً دينياً، أو منصباً ذا علاقة بالمنظومة الدينية، أن يكون خير قدوة لكل الناس، لأن البشر مفطورون على حب الأديان واحترامها وتبجيلها، وتبجيل واحترام من يرفع رايتها ويخدم مقدساتهم؛ لذلك يستبين لنا عِظَم دور من يملك لواء الأديان والشرائع في كل بقعة.

ولكن هذه الاعتبارات تُنسف، عندما ينحرف أرباب الديانات وأصحاب منابرها عن الغاية النبيلة في إرساء قواعد الحياة الكريمة للشعوب، والسعي إلى توفير السلام الداخلي في نفوسهم، ويتحول المنبر الديني والمنصب المعتقدي إلى أداة لقمع الشعوب وإرهابهم، والسيطرة على أفكارهم وعقولهم، والتضييق عليهم في حياتهم ومعايشهم، والحجر على أحلامهم، وحينها تكون الانحرافات عن الجادة.

الدين والسلطة – تحولات التاريخ ودور الإصلاح الديني

عند النظر إلى ما آلت إليه الأمور في أوروبا في القرون الوسطى، نجد أن القساوسة والرهبان وكل من اعتلى منصباً دينياً لاهوتياً قد خاضت أقدامهم في وحل الظلم والطغيان، الواقعَين على الشعوب الأوروبية المقهورة؛ فكانت الكنيسة الغربية الرومانية الكاثوليكية تمارس الظلم والإفساد بتحالفها المشبوه مع الملكيات والسلطات السياسية، حتى إن البابا في روما كانت له الإمرة الكاملة على السلطات في أوروبا، فكان الملوك يدينون بالولاء السياسي للبابا،
وهو صاحب منصب ديني بحت كان من الأولى أن ينشغل بالإصلاحات الدينية، إلا أنه وضع يده في السياسة وضعاً لا يُراد منه تطهير الملوك والسياسيين من لوث السياسة، ودعوتهم إلى نبذ الظلم والقهر والتجاوزات المالية والتشريعية، إنما وضع البابا وأعوانه أيديهم في السياسة لكي يكون لهم يدٌ في الإقطاعات، وتكوين الثروات المالية والنفوذ الذي يلبي رغباتهم الدنيوية، فكان من مصلحتهم أن يكونوا بصورة قديسية، معصومة عن النقد من أي طرف ومن أي أحد، حتى يتسنى لهم اللعب في عقول الشعوب، وإيهامهم أن ما يأخذونه من أموالهم بالباطل ما هو إلا استجابة لرغبة الرب.

فلم تلبث أوروبا على هذه الحالة زمناً طويلاً، حتى ضاق الناس ذرعاً بممارسات الكنيسة الموالية لظلم الملوك والساسة، وتزيينها لكل أفعال السلطات السياسية المخالفة للمبادئ المسيحية، التي تنص في مجملها على العدالة واحترام حقوق الناس، فكانت الحركات الاحتجاجية والإصلاحية والاستنكارية متوالية الظهور في وجه غطرسة الكهنة والقساوسة السلبيين، ممن باعوا ضمائرهم لشيطان النفس وملذاتها القاصرة.

ومن هذه التحركات التي أحدثت دَوياً في تاريخ أوروبا الفكري، الحركة الإصلاحية النهضوية الفكرية التي قادها الراهب الألماني مارتن لوثر؛ فقد قاد لوثر – وهو المحامي خريج مدارس القانون وأيضاً أستاذ اللاهوث في عدد من المراكز الدينية- حملة إصلاحية مقاومة لكل ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، التي يقوم بها بعض القساوسة والرهبان، من احتكار لحريات الناس، والاستيلاء على أموالهم بالباطل ببيعهم صكوك الغفران، وكانت الجَنة توزَّع كأراضٍ تقاس بالأمتار على حسب ما يعطي الإنسان البسيط من أموال للقساوسة في جلسة طلب الغفران!

واستنكر لوثر أن يحتكر القساوسة منحة الغفران، وذكّر أنها حق للرب فهو يغفر لمن يشاء، ويذكر لوثر أيضاً أمرًا يتوافق فيه مع منطلقات الشريعة الإسلامية، وهو أن الناس لا يدخلون الجنة بجهودهم إنما برحمة من الرب، واستهجن لوثر أن يكون الولاء للسلطة السياسية شرطاً من شروط التوبة لدى المسيحيين! فما شأن السلطة السياسية وطلب رضاها حتى يتحقق رضا الرب؟!

هكذا استنكر لوثر ربط الولاء السياسي بالولاء الديني، فالرب له قدسيته وطريقه الخاص؛ كما اعترض لوثر على ما تقوم به الكنيسة من أخذ أموال الناس بالباطل، لبناء ما يستجد من كنائس، وما يراد لها من إصلاحات وترميمات. ونتج عن ذلك أن لوثر لم يسلم من هجمات مرتدة من الكنيسة وأعوانها، فقد قاموا بمحاربته ومحاكمته، ووصل الأمر إلى تكفيره ومطالبته بالتوبة للكنيسة ولكنه رفض ذلك.. وقد شكلت تحركاته إعلان نشأة المذهب البروتستانتي الإصلاحي.

كذلك هو الحال في كل أمة من أمم الأرض، متى ضل أهل الدين الطريق، واتخذوا الدين هزواً ولعباً وأداة بيد السلطة، نشأ العداء بين الشعوب والأديان بسبب ما يفعله أهل الدين من العلماء والفقهاء وطلبة العلم.

فالأولى أن يتصدى للمنابر الدينية أهل البصيرة من العلماء، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يحموه من تسلط أهل المنافع والسياسة عليه.

1 تعليق

  1. خالد محمد ابوطي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، اما بعد ،

    التغير مطلوب و التنقيب و الحقيقة مطلب و الوعي كذلك ،
    اكمل اخي جاسم و اكملوا اخواني في نشر الوعي ، وصلنا هدفكم و المسعى واحد .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى. فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم "رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه". ولست من هؤلاء...

قراءة المزيد
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
Loading...