مصر المطلوبة

بواسطة | أبريل 18, 2023

بواسطة | أبريل 18, 2023

مصر المطلوبة

فارق كبير بين زمن كنت فيه من أجل الحصول على معلومة، تقرأ كتبا أو صحفا أو تستمع لنشرات الإذاعة؛ وزمن تنهال عليك فيه الأخبار من السوشيال ميديا فلا تتوقف.. فارق كبير بين زمن كنت تجلس فيه إلى المقهي بين أصدقائك، ومهما طال النقاش لا ينتهي بالخلاف، فالصداقة محبة ورضا؛ وزمن فيه مقهى مفتوح لآلاف من الرواد، لا تعرفهم معرفة شخصية، وترى فيه تعليقات وحوارات أكثرها يبحث عن النيات، ويلقي الاتهامات في الطريق.
صار هذا حال الدنيا الآن، فكل من يريد الكلام يجد له الفرصة دون أن يتكلف شيئا، لا موعدا معك، ولا مواصلات يركبها إلى المقهي حيث كانت اللقاءات.
 تعودت ألا أتوقف عند كثير من النقاشات، وخاصة حين أجد الاتهامات تسبق الرأي، سواء أكان ذلك لي أم لغيري.
في الأيام الأخيرة وجدت موضوعات غريبة تُثار حول مصر، فقد ظهر ما يسمى بالأفروسنتريك – أو الأصل الأفريقي-، وفيه الادعاء أن المصريين القدماء أصلهم سود من أفريقيا، نزحوا شمالا وأنجبوا المصريين القدماء.
أنا شخصيا لا أتوقف عند اللون، ولا أحب الحديث فيه، فلا أحد يختار لونه، ولا عيب في أيّ لون.. وجدت أن الظاهرة منتشرة على السوشيال ميديا، بل ووصلت إلى أميركا، ففيها من يقول ذلك من أصحاب الأصل الأفريقي. ولم أشغل بالي بالأمر، فتاريخ المصريين معروف، واللغة المصرية القديمة تم فك شيفرتها منذ القرن التاسع عشر، وكل ما تركه المصريون خلفهم من رسوم أو نقوش أو كتابات على ورق البردي تمت ترجمته؛ ولا شيء يقول إن المصريين أصلهم سود نزحوا من أواسط أفريقيا، أو حتى السودان، واستعمروا الأرض الخالية وأنشأوا أمة. وأهم الغزوات لمصر قديما كانت من النوبيين جنوب مصر ومن الهكسوس من آسيا ومن الأمازيغ من ليبيا؛ وهؤلاء هاجموا بلدا فيها شعب وحكام ونظام حكم وليست خالية، وسرعان ما طردهم المصريون، فعادوا إلى بلادهم، أو بقي بعضهم وصار مصريا.

يمكن أن تجد في مصر قبائل وعائلات لها أصول عربية، لكنها رغم احتفاظها بأسماء قديمة، مثل بني هلال، امتزجت بدورها بالروح المصرية مع الزمن. فمصر -كما قال جمال حمدان- أنبوبة ماصة لكل من بقي من غزاتها

والغزوات التالية كانت من الفرس، ثم اليونان ثم الرومان، ثم دخلها العرب، وهؤلاء جميعا دخلوا كسابقيهم وطنا عامرا بالشعب والانجازات الحضارية، ولم يُغرهم مكان خالٍ، لكن وطن فيه خيرات عمّت عليهم جبرا للمصريين أو اختيارا. فالفرس لم يستمروا كثيرا، واليونان ثم الرومان شكلوا عصرا كاملا هو العصر الهلّينيستي، الذي امتزجت فيه حضارتهم وثقافتهم بثقافات المصريين؛ لكنهم لم يُنشئوا مصر من العدم. والأمر نفسه كان بالنسبة للعرب.. اليونانيون والرومان ذابوا تماموا في الروح المصرية، والأمر نفسه حصل مع العرب رغم أنهم الأحدث.
يمكن أن تجد في مصر قبائل وعائلات لها أصول عربية، لكنها رغم احتفاظها بأسماء قديمة، مثل بني هلال، امتزجت بدورها بالروح المصرية مع الزمن. فمصر -كما قال جمال حمدان- أنبوبة ماصة لكل من بقي من غزاتها، أو هاجر إليها فصار مصريا. وهكذا تبدو حكاية الأصول الأفريقية السوداء للمصريين كذبة حمقاء، رغم أنها تسعد أصحابها. طبعا نال هؤلاء على الميديا كل نقد وانتقاد، وشتائم أحيانا، وصرت أتفرج ولا أعلق. لكني ماكدت أنسى ذلك حتى وجدت بابا جديدا قد انفتح، يقول إن أصل المصريين من الشام، وبابا آخر يقول إن أصل المصريين من الجزيرة العربية، وغيره يدعي أصل المصريين من اليمن. وصرت أضحك وأتساءل: مابالكم وأصل المصريين؟ ولماذا نشغلكم هكذا؟. لكن الأمر هذه المرة تجاوز المنطق، لأنه  صار هناك من يشتم الشعب المصري، فهو في نظره  شعب بلا تاريخ، وحتي طعامه كله عبر التاريخ، طعام من بلاد أخرى..
هنا احتدت المعركة، لأن من يقولون ذلك يستخدمون ألفاظا يعف اللسان عنها. وكان طبيعيا أن تنالهم شتائم بنفس القدر وأكثر من بعض المصريين، رغم أن الصمت كان هو الأفضل، فهذه موضوعات لابد لها من علماء وآثار عينية، كنقش أو بناء أو ألواح محفوظة. لكن السؤال الذي ظل أمامي ليس: لماذا الهجوم على مصر والمصريين؟ وإنما: لماذا الرغبة في الاستحواذ على مصر والمصريين؟.. هل يتخيل أحد أننا يوما سننقل معابد الأقصر أو غيرها من الآثار في الإسكندرية والقاهرة إلى البلاد التي يدعي المتحدثون أنها أصل لمصر؟. صحيح أن مصر تمر بظروف اقتصادية صعبة، وصحيح أن بعضا من المصريين يجدون سبيلا إلى أوربا عبر البحر أو غيره من الطرق الرسمية، وصحيح أن الحياة في مصر ضاقت على كثير من أهلها. لكن، هل يعني ذلك أنها فرصة مثلا لنقل آثارها إلى بلاد، لا تدل الآثار أنها وفدت منها إلى مصر خالية، ثم أنجبت الشعب المصري؟.

هل وجود آثار قديمة تعود لآلاف السنين، في دولة عربية، يعني أن هذه الدولة كانت مصدرا لمصر والمصريين؟!. الحضارة البابلية والحضارة الآشورية هما أقدم الحضارات الموازية للحضارة المصرية القديمة، وبعض الدراسات تقول إنهما أقدم، ولكن لم يقل البابليون ولا الآشوريون، وكذلك لم يقل السومريون، أنهم أصل المصريين.

حين بدأت الحياة في مصر القديمة كانت نتاج البناء النهري القديم، الذي يجعل الحاكم إلها أو ابن إله، لأنه هو الذي يجد الطرق لمسيرة النيل، فلا يطغي كثيرا على الأراضي حوله ويغرقها ويغرق أهلها. وهذا البناء النهري  تغير في مصر في العصر الهلّينيستي أو الهلّيني، حين عرفت مصر ما كان منسيا، وهي أنها تطل على البحر المتوسط بمسافة أطول من كل حدودها، وتصل إلى ألف كيلو متر، ومن ثم، فحين تراجعت الحياة مع توافد العثمانيين أو المماليك عليها، وعادت من جديد تطل على أوربا مع محمد علي وأبنائه، عرفت مصر ماكان غائبا كثيرا في الحياة السياسية، وهو الليبرالية، وعرفت عمارة البحر المتوسط. وصحيح أنه حدثت انتكاسة في ذلك مع الحكم العسكري بعد 1952، وبشكل أكبر منذ السبعينات، فظهرت العشوائيات، وكادت تحاصر مظاهر النهضة السابقة، لكن هذا أمر يخصنا  نحن -المصريين- وحكامنا، ولا يعني أن مصر بلد لقيط ليس له أب ولا تاريخ.. لماذا لا يفهم مثل هؤلاء أننا – مثلا- لا نتدخل في مشاكل الشعوب العربية مع أنظمتها السياسة، ونترك ذلك لهم، بينما هم يتدخلون ويشتمون المصريين، ويبحثون لهم عن أب؟.
وهل وجود آثار قديمة تعود لآلاف السنين، في دولة عربية، يعني أن هذه الدولة كانت مصدرا لمصر والمصريين؟!. الحضارة البابلية والحضارة الآشورية هما أقدم الحضارات الموازية للحضارة المصرية القديمة، وبعض الدراسات تقول إنهما أقدم، ولكن لم يقل البابليون ولا الآشوريون، وكذلك لم يقل السومريون، أنهم أصل المصريين. وحين حدث الغزو الفارسي عام 525 ق.م انقطع وتكرر، حتى انتهى بسرعة مع دخول الإسكندر الأكبر واليونانيين عام 332 ق.م،  ولم يترك الفرس وراءهم أثرا واحدا يعتد به. الحضارة في الجزيرة العربية قديمة جدا، مرت عليها أمم مثل عاد وثمود وطسم وجاديس والأنباط وغيرها، ولكن لا أثر يقول إنهم وفدوا على مصر وتركوا فيها نسلا صار شعبها. أتمنى أن يفعل الكثيرون من المصريين مثلي، فلا يتوقفون عند هذا الهراء، لكني أتمنى أيضاً أن يتوقف من يجدون في هذا الكذب متعة، فهو والله لن يرضي حكامهم إذا كانوا يتوسلون إليهم. ثم أين هي الدولة العربية التي ستفرح بتبني مائة مليون مواطن منسيين، كانوا يوما من نسلها؟.. قضايا تثير الضحك أيضا!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...