أزمة السودان.. مستودع المفارقات

بواسطة | أبريل 26, 2023

بواسطة | أبريل 26, 2023

أزمة السودان.. مستودع المفارقات

أضحت الحرب الأهلية في السودان، وتعنّت قيادتي ميلشيا الردع السريع والجيش السوداني لنداءات الهدنة والوساطات العربية والأفريقية والدولية، بمثابة شجرة تخفي وراءها الغابة، وتكشف عدة مفارقات؛ ليس عند تفكيك الوضع الراهن فحسب، بل وأيضا في تفسير بعض الخبايا التي انتابت دور الجيوش والعلاقات المدنية العسكرية في خمس دول، عايشت موجة الانتفاضات العربية (تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) خلال عام 2011، وأيضا خلال الحراك السياسي عام 2019 في السودان والجزائر. ولم ينفجر الوضع في السودان إلى دوامة عنف مفتوحة، بسبب تعثر التوافق بين المكوّنين: المدني والعسكري على تطبيق الاتفاق الإطاري، بقدر ما تضاربت المصالح بين زعيمي نخبتين من الضباط، وهما محمد حمدان دقلو (حميدتي) وعبد الفتاح البرهان.
تكمن المفارقة الأولى في أن إصرار الرجلين على القتال مرده إلى ثلاثة اعتبارات أساسية:

الخشية من ضياع المكاسب والغنائم، التي يكرسها التحكم في صنع القرار في الخرطوم، لا سيما في ظل الهيمنة على ثلاثة أرباع موارد الاقتصاد السوداني، خاصة من قبل حميدتي وكبار ضباط ميلشيا الردع السريع.
ورقة المصالح المتبادلة، التي يوظفها الرجلان مع بعض دول الجوار الإقليمي في شرق أفريقيا والخليج، مثل مصر وليبيا والسعودية والإمارات.
القلق الشخصي لديهما من احتمال أن يتحولا إلى شخصين “مارقين”، ستطالب المحكمة الجنائية الدولية بإدانتهما لتورطهما في “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”، إذا وجدا نفسيهما خارج مراكز السلطة. 

تكمن المفارقة الثانية في أن تسابق الدول، عربية ودولية، لإجلاء دبلوماسييها ورعاياها من السودان بشتى السبل، ليس إجراء تقليديا طبيعيا، أو مؤشرا على وضع أمني متدهور في البلاد فحسب؛ بل هو أيضا إقرار ضمني من قبل المجتمع الدولي بأن ما يحدث “حرب أهلية”، وإن لم يصل عدد الضحايا إلى ألف شخص، حسب المعايير الأكاديمية المتبعة في التصنيف. في الوقت ذاته، تعتد شتى العواصم بأن السودان تحول من “دولة هشة” إلى “دولة فاشلة”، سواء في من حيث العنف المتفاقم، أو شح أو توقف جل مرافق الخدمات الإنسانية، وهذه مفارقة ثالثة تغيب خلف الانشغال بمشاهد العنف المسلح. وقد أعلنت نقابة أطباء السودان، أن نسبة 70 في المئة من المستشفيات المتاخمة لمناطق الاشتباك بين الجيش وقوات الدعم السريع متوقفة عن العمل، وأن 55 مستشفى أساسيا، في العاصمة والولايات، من أصل 78 صار خارج الخدمة. وتواجه بقية المستشفيات احتمال الإغلاق، بسبب نقص الكوادر والإمدادات الطبية والإمدادات والكهرباء والمياه.

تنطوي أزمة السودان على مفارقة رابعة، في ضوء تزايد التقارب بين قيادة الجيش والردع السريع مع إسرائيل. وقد تواصلت الخارجية الإسرائيلية مع البرهان في حين أشارت أنباء عن تواصل الموساد مع حميدتي

في دراسة بعنوان “كيف تبدأ الحرب الأهلية؟.. دور العمليات التصعيدية”، والعنوان بالإنجليزية:
How does civil war begin? The role of escalatory processes، يوضح ولفرام لاتشر Lacher Wolfram قائلا:
“تندرج المحاولات الأخيرة لتنظير أسباب الحرب الأهلية في منطلقين عريضين: منطلق يسعى إلى تحديد الظروف البنيوية المرتبطة إحصائيا ببدء الصراع العنيف، وآخر يحدد أسباب فشل المساومة مع تحديد الظروف المعرضة بشكل خاص لمثل هذه الإخفاقات. وبينما يبحث المنطلق الأول عن الأسباب الجذرية للصراعات، يميل الثاني إلى اختزال أسباب القتال في عدم تناسق المعلومات أو مشاكل الالتزام. ويتجاهل كلا المنطلقين جانبا حاسما في اندلاع الصراع الأهلي، وهو التصعيد ذاته، والذي يستلزم عمليات سببية داخلية”.
ويرى علماء سياسة آخرون أن الحرب الأهلية هي في الأساس مشكلة الدول الضعيفة، ويُعزى هذا الضعف إلى حد كبير إلى مستوى التنمية الاقتصادية.
تنطوي أزمة السودان على مفارقة رابعة، في ضوء تزايد التقارب بين قيادة الجيش والردع السريع مع إسرائيل. وقد تواصلت الخارجية الإسرائيلية مع البرهان في حين أشارت أنباء عن تواصل الموساد مع حميدتي، وسط مساعي الطرفين للبحث عن دعم إسرائيلي، في حين أن تل أبيب تحاول أن تكسب من الصراع. وقد شبّه يوسف عزّت، المستشار السياسي لقوات الدعم السريع، الهجمات التي يشنّها الجيش السوداني على قواته بهجمات حركة حماس التي وصفها ﺑ “الإرهابية” ضد إسرائيل. وهذا تكريس في أعين حميدتي والبرهان لقراءة قديمة، بأن التوافق مع واشنطن يمر عبر تل أبيب، وأن اللوبي الإسرئيلي في الولايات المتحدة والدول الأوروبية ما يزال مؤثرا في القرار السياسي؛ ويتناسى الرجلان أن جماعة أيباك وبقية منظمات اللوبي الإسرائيلي، لم تفلح في ضمان إعادة انتخاب دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، في نوفمبر عام 2020، وهو الرئيس الأكثر سخاء لنتنياهو وحزب الليكود وبقية اليمين في إسرائيل. وتزداد المفارقة إثارة عندما يناصر مؤيدو التطبيع الإبراهيمي فكرة “وساطة إسرائيلية” لأزمة السودان، وكأن اتفاق التطبيع أصبح هو المحدد الجامع المانع للسياسة الخارجية للسودان.

في السودان مفارقة سادسة وسادية أيضا، فيها عسكرٌ يقاتلون عسكراً في حرب التمرد الأعمى، ويساهمون من حيث لا يدرون في أدبيات الحرب الأهلية بمفهوم جديد هو الانقلاب المضاعف، وهذا هو لبّ النبوغ العسكري السوداني.

تندرج المفارقة الخامسة في أن موجة الحرب الأهلية الراهنة في السودان تعيدنا إلى المربع الأول عام 2011، وإلى السؤال: أكان تصوّرنا دقيقا أم ساذجا لعلاقة الجيش بالسلطة والسياسة؟.. خاصة عند المقارنة بين دور الجنرال رشيد بن عمار، الذي عارض تدخل الجيش في السياسة، وترك الكرة في الملعب بين الأحزاب والقوى المدنية وإرادة المجتمع المدني التونسي؛ وكيف أدار المجلس الأعلى للقوات المسلحة أشهر الاحتجاجات في ميدان التحرير في القاهرة، قبل أن يهندس وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي، خارطة الطريق إلى السلطة ويضمن المصلحة الاقتصادية للجيش المصري في المقام الأول، عبر بوابة صناديق الاقتراع.
في السودان مفارقة سادسة وسادية أيضا، فيها عسكرٌ يقاتلون عسكراً في حرب التمرد الأعمى، ويساهمون من حيث لا يدرون في أدبيات الحرب الأهلية بمفهوم جديد هو الانقلاب المضاعف، وهذا هو لبّ النبوغ العسكري السوداني. ولا يتوقف طموح مثل هذه النخب الحاكمة بشكل تسلّطي، في بدعة “تهافت التهافت” على التشبث بمراكز السلطة، وتحوير مسارات التطور بغية إصلاحات ديمقراطية، نحو حكومة مُعسكرة بحكم الأمر الواقع. وتجسد أحداث السودان كيفية محاولة قوات التدخل السريع التمرد والسيطرة على مراكز التحكم لدى الجيش السوداني، فيما يستهدف حميدتي احتواء البرهان شخصيا وسياسيا؛ وهو صراع عسكري-عسكري معاند، وسط صراع أكبر بين الساعين لاستدامة سلطات الجيش، والداعين للعودة إلى مسار حكومة مدنية منذ 2019.
ما يفعله حميدتي والبرهان وأنصارهما في الداخل، وداعموهما في الخارج، يُبعد السودان ميلا آخر عن تحقيق التحول الديمقراطي، ويجعل الكيان العسكري حيوانا سياسيا، لديه قابلية التحوّر الاستراتيجي حسب المصلحة بين المواسم السياسية.

من عجائب القرن الحادي والعشرين، أن المنطقة العربية تؤوي أشرس نوعية من ضباط الجيش وأكثرهم تعطشا للسلطة؛ وفي المقابل، قطعت بقية دول العالم، حتى في أمريكا اللاتينية، أشواطا بعيدة تفصلها عن تدخل الجيش في السلطة

وتتعمق المفارقة السابعة إلى درجة أن الفريقين المتصارعين حاليا في الخرطوم، لم يختارا مسلك تجاوز إرادة التحرر المدني لدى الشعب من قبضة الجنرالات، أو استدامة منظومة تسلطية لمن استفادوا من حقبة عمر البشير فحسب؛ بل اختارا أيضا التمسك بالاقتصاد السياسي العسكري، وجشع كبار الضباط ليكونوا الأوصياء الغانمين والمُستغنمين في كل مراحل التطور السياسي. ولم يعد النقاش يدور، كما هو في الدول ذات الأنظمة العسكرية سابقا، حول ضرورة التزام الضباط والجنود بحماية الحدود، وأن مكانهم الطبيعي ليس خارج الثكنات؛ بل صار موضوعه: متى يتوقف نهم الغنيمة والتمسك بالمقام الاعتباري لدى هؤلاء الجنرالات في السودان؟.
من عجائب القرن الحادي والعشرين، أن المنطقة العربية تؤوي أشرس نوعية من ضباط الجيش وأكثرهم تعطشا للسلطة؛ وفي المقابل، قطعت بقية دول العالم، حتى في أمريكا اللاتينية، أشواطا بعيدة تفصلها عن تدخل الجيش في السلطة؛ وحتى دراسات العلاقات المدنية العسكرية تقوم على أولوية الجانب المدني، وأن وزارات الدفاع وكبرى المؤسسات العسكرية تكون تحت إشراف شخصيات مدنية ضمن حكومات تتولى السلطة عن طريق الانتخابات.
أتذكر حديثا يعود إلى أغسطس عام 2011، دار بيني وبين أحد وزراء الخارجية العرب السابقين، حول الوضع في مصر عقب تنحية حسني مبارك. فقال: هل تحسب حساب ردة فعل الجيش؟. وكان هذا استشرافا صائبا، تأكد في أغسطس عام 2013. واليوم، يضيف السودان فصلا جديدا في كتاب “ضباط ضد ضباط: كاتولاج الانقلابات العسكرية العربية”، ويقلب القاعدة إلى نقيضها: العلاقات العسكرية – العسكرية – المدنية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

يوشك الأمم أن تداعى! (1)

يوشك الأمم أن تداعى! (1)

كيف تحدث هذه الفظائع كلها في غزة، دون أن يكون هناك أي تحرك من الأشقاء أهل السلطة في البلاد العربية أو المسلمة؟ أليس الدين واحدا؟ والدم واحدا؟! إلام يستمر هذا النزيف ليقتنع الإخوة الأشقاء أو الألداء، ويهبّوا من أجل هذا  الدم الذي يسيل بلا حساب؟! هذا السؤال...

قراءة المزيد
رمضان أبو جزر.. شاهد على العصر

رمضان أبو جزر.. شاهد على العصر

رمضان أبو جزر طفل فلسطيني، يحمل على كتفيه الصغيرين همَّ أمة بأكملها، يؤمن بأنَّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، فصاحة لسانه وحسن منطوقه يجبرانك على الإنصات له، فحديثه يوازي عمر رجل أربعيني. له من الألقاب فوق ما أحصيه عدّاً؛ فهو الخوارزمي الصغير، وسفير أطفال...

قراءة المزيد
الهجرة النبوية والنزعة إلى الاستقلال

الهجرة النبوية والنزعة إلى الاستقلال

يحلُّ علينا الآن عام هجري جديد، ونحن نعلم يقيناً أن الهجرة النبوية ليست حدثاً عابراً مرت به الأمة وقائدها، إنما كان حدثاً يؤكد لنا ضرورة الاستقلالية قبل بداية أي مشروع فكري نهضوي حضاري، فقد كان لزاما على قائد المسيرة تغيير موطن بداية الانطلاقة لدولة الحضارة، حتى لا...

قراءة المزيد
Loading...