“أزمة القُمصان” والصحراء.. والجرح الجزائري- المغربي!

بواسطة | مايو 7, 2024

بواسطة | مايو 7, 2024

“أزمة القُمصان” والصحراء.. والجرح الجزائري- المغربي!

وكأن الأمة ينقصها أزمات حتى ننشغل فيما عُرف بـ”أزمة القُمصان” على خلفية مباراتين في كرة القدم، جرتا مؤخراً بين فريقي اتحاد العاصمة الجزائري ونهضة بركان المغربي.

لقد فتحت هذه الأزمة مجدداً الجرح الغائر في الجسد العربي، الذي بمجرد أن يتوارى في جهة ينكشف في جهات أخرى؛ إنه الجرح الذي يجعل الإجابة على تساؤل بريء لجماهير عربية عريضة درباً من المستحيل، ذاك التساؤل: متى يأتي اليوم الذي نتنقل فيه بلا عوائق بين بلاد الأمة الواحدة، مثلما يفعل الأخوة وارد أوروبا والدول المتقدمة بين بلادهم؟.

الأزمة بدأت برفض السلطات الجزائرية دخول قُمصان الفريق المغربي، التي تحمل خريطة للمملكة المغربية تضم “الصحراء المغربية” وفق توصيف الرباط، أو “الصحراء الغربية” وفق التعريف الجزائري..  مجرد “حرف ميم” أشعل ناراً لم تنطفئ منذ عقود، تسببت في قطيعة بين بلدين كبيرين جارين، وشعبين شقيقين، لم تفلح معها كل محاولات التهدئة والصلح، لدرجة أن الراحل الكبير الملك فهد بن عبدالعزيز، وحرصاً منه على لمّ شمل الجانبين عام 1989، حاول جمع الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد  بالعاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني، خلال إحدى القمم الإسلامية، للتصافح فقط عند البيت العتيق في مكة المكرمة.

 وحين لم يستطع الملك فهد جمع الرجلين، عاد إلى أعراف التاريخ العربي القديم في التصالح، ونصب خيمته على الحدود بين البلدين للضغط الإيجابي لتحقيق هدف الوئام، ودعا كلاً من “بن جديد” و”الحسن الثاني” لخيمته، وحضرا.. فكانت أول جلسة مشتركة لفتح باب الحوار، وقد أسفر عن وقف الصراع مؤقتاً، لتعود النار وتشتعل بين حين وحين، وآخِر ذلك في ملاعب رياضية تشرّب عشبها بماء خلافات الأنظمة، الذي لا يطفئ اللهيب بل يزيد شراره وشروره.

لقد رفض فريق نهضة بركان لعب المباراة في الجزائر بدون قمصانه التي تحمل خريطة بلاده كما يراها، وفي المغرب رد الفريق الجزائري الرفض بـ”أفضل منه”، وأصرّ على عدم اللعب إذا ارتدى الفريق المغربي القمصان نفسها!

الأزمة لم تكشف فقط أن “المصالحة الروسية الأوكرانية” رغم ما بين الطرفين من تنافرات، هي أقرب من “المصالحة المغربية الجزائرية” رغم كل ما يربط البلدين من مُشتركات.. لكنها – الأزمة- كشفت أيضاً عن “جهل” قطاع كبير من الإعلام العربي بحقيقة “الخريطة” سبب إلغاء المباراتين، والتي قالت معظم هذه الوسائل إنها خريطة تحمل شعارات سياسية، وإن هناك خلافات حدودية بين البلدين.

ما أصل الأزمة؟

في صباي قرأت تحقيقاً صحافياً، في جريدة “الأهالي” المصرية – لسان حال حزب التجمع اليساري- من داخل بيوت “الصحراويين”.. إنهم أهالي الصحراء الغربية، التي تؤكد المملكة المغربية أنها جزء لا يتجزأ من ترابها الوطني، بينما تنادي جبهة “البوليساريو” بانفصالها عن المغرب، وأعلنت الجبهة بالفعل تأسيس ما يسمى بـ” الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية”.

ولمزيد من التعريف للأجيال الجديدة أوضح أن كلمة “البوليساريو” هي المختصر الإسباني المكون من الأحرف الأولى لاسم “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”، وإقليم وادي الذهب هو إقليم واسع يغطي ثلثي تلك المنطقة، ويقع إلى الجنوب من إقليم الساقية الحمراء، والمنطقة برمتها تقع جنوبي المغرب وشمالي موريتانيا، ويحدها من الشرق الجزائر.

الجزائر من جانبها كانت تطمح إلى أن يكون لها نصيب من أراضي الصحراء الغربية بعد رحيل الإسبان عنها، ليكون لها منفذ على المحيط فتجمع بين الحُسنين “المتوسط” و”الأطلسي”، كما أن موريتانيا هي الأخرى كانت تريد نصيبها من “الكعكة الصحراوية”؛ وبعدما فرضت المغرب سيطرتها على الإقليم، اتجهت الجزائر إلى احتضان “البوليساريو” ومناصريها في تندوف الواقعة جنوب غرب أراضيها والقريبة من الحدود مع الصحراء، نكاية بالمغرب ودعماً لاستقلال هذه المنطقة لتحرم المغرب منها، ولتجد لها في الوقت نفسه موطئ قدم عبر توطيد التعاون مع “الجمهورية الصحراوية” المنتظرة.

التحقيق الصحفي لـ “الأهالي”، وبحكم انتماء الجريدة إلى اليسار، ومعارضة الأنظمة العربية غير الاشتراكية، كان منحازا لـ”البوليساريو”. لقد تعاطفت معها ومع زعيمها الراحل محمد عبد العزيز، الذي “يناضل لمصلحة أناس لهم هوية وثقافة مستقلة عن المغاربة”، كما ذكر التحقيق.. أحببت الصحراويين الذين يعلّقون في منازلهم صور جمال عبد الناصر، وقد كان يمثل لنا وقتها – بحكم مرحلة الصبا وقلة الخبرة- الزعيمَ المُلهم للحرية ومحاربة الاستعمار ورفع الرأس، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر !

صوّر لي خيالي الغض وسذاجة الرؤية أيامها أن محمد عبد العزيز ورفاقه سيؤسسون دولة قوية تسودها العدالة الاجتماعية، وستصبح قبلة لكل توّاق إلى الحرية ورافض للجبروت الأمريكي والعدو الصهيوني، تماماً مثل “جماهيرية العقيد”، رحمها ورحمه الله.

مضت سنوات

جرت في نهر معارفنا معلومات جديدة.. لاحظت أن محمد عبد العزيز، الذى يختم اسم دولته بـ”الديمقراطية” لا يُستبدل به غيره منذ توليه القيادة عام 1976، إنه ثابت في مقدمة “البوليساريو” ثبات مسؤولي العرب، الذين لا يتغيرون ولا يتركون السلطة إلا تلبية لنداء عزرائيل، وهو ما حصل معه حيث ترك القيادة بسبب وفاته في 31 مايو 2016، ليخلفه إبراهيم غالي.

لكن المأساة الحقيقية لم تكن في حرصه على كرسي عرش جبهته ودولته المفترضة، التي حظيت بالفعل باعتراف العديد من الدول خصوصاً الأفريقية، وإنما في المخيمات المقامة على أطراف تندوف، والتي تضم بين جنباتها عشرات الألوف من أهالي الصحراء الغربية، والذين يُفترض بحسب “البوليساريو” والجزائر- أنهم يقيمون فيها لحين عودتهم إلى “الصحراء بعد تحررها”.

الأخبار النادرة الواردة من هذه المخيمات، والصور القليلة المتوافرة عنها، تدل على مأساة بمعنى الكلمة تجري أمام أعين العالم.. عشرات الآلاف من البشر يعيشون في ظل أوضاع غير آدمية، وبلا أي مقومات لحياة إنسانية، إنهم موجودون تحت رحمة “البوليساريو”، التي ترفض عودتهم إلى ديارهم بالصحراء قبل “التحرير”، تعدهم بـ”الجنة الموعودة”، لكنهم ينتظرون ما لا يجيء!

قبل سنوات وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني من الأستاذ “الصالح خطري محمد سيد أحمد”، أحد مؤسسي حزب “التجمع الصحراوي الديمقراطي” المعارض لــ”البوليساريو”، والناطق الرسمي للحزب، وقد أوضح لي أن حزبه “وُلد من خضم الصراخ والتمرد على المأساة والمعاناة اليومية، والحالة المزرية التي يعيشها الصحراويون، وفشل سياسة جبهة البوليساريو في تحقيق التوازن الفردي والجماعي لهم، والقدوم بهم إلى آفاق جديدة يحقق الفرد فيها حريته وكرامته”، فالبوليساريو – كما يقول- “محام ثبت فشله في الدفاع عن حقوق الصحراويين”.

يرفض هذا الحزب “ديكتاتورية الجبهة”، ويؤكد “خطري” أنه ورفاقه يدافعون عن خيارات الصحراويين الوطنية”، منسجمين في ذلك مع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الصحراوية، وخاصة بشأن حل سياسي توافقي متفاوض عليه بين المملكة المغربية والشعب الصحراوي، يراعي مصالح منطقتنا المغاربية”.

طلبت من “خطري” أن يعطيني معلومات إضافية عن أحوال سكان “مخيمات تندوف”، فكانت الصورة أكثر قتامة!

على مدى أكثر من أربعة عقود يعيش اللاجئون الصحراويون في المخيمات، وسط ظروف مناخية قاسية وحياة صعبة، حيث تعتبر منطقة الحمادة الجزائرية – التي تضم مدينة تندوف مكان المخيمات- من أكثر المناطق قساوة في العالم، لشدة الحر صيفاً وشدة البرودة شتاء؛ ولذلك فإن اللاجئين الصحراويين يعتمدون كلياً على المساعدات الإنسانية ومشاريع التضامن. تعداد سكان مخيمات اللاجئين الصحراويين يقدر بنحو 94.144، وبحسب جبهة البوليساريو فإن التعداد يصل إلى 165.000، ولهذا تطالب الأمم المتحدة بإجراء إحصاء لسكان المخيمات، وهو ما ترفضه الجبهة.

يعتبر التنقل داخل المخيمات حراً ومفتوحاً، أما الانتقال إلى خارج المخيمات في اتجاه المدن الجزائرية أو العكس فيستلزم تقديم طلب ترخيص مُسبق إلى السلطات الصحراوية، التي تقدم الطلب نفسه بدورها للإدارة العسكرية الجزائرية؛ وفي اتجاه موريتانيا يُكتفى بالترخيص الذي تسلمه الإدارة الصحراوية.

جواز السفر الجزائري هو وثيقة السفر التي يمكن للصحراويين التنقل بها خارج حدود الجزائر، وللحصول على هذه الوثيقة لا بد من المرور عبر إجراءات إدارية مطولة، قد تأخذ سنوات ما بين الإدارتين الصحراوية والجزائرية، ولا يسمح للصحراويين بالعمل إطلاقاً في الجزائر.

 سياسيا، جبهة البوليساريو هي التيار السياسي المسيطر منذ 1975 على الحكم في المخيمات، وقد تسببت هذه الهيمنة في استياء غالبية المواطنين الذين يعيشون تحت رحمة المساعدات وعطايا الدول. وكان للراحل محمد عبد العزيز خيمة بمخيم مدرسة 27 فبراير، وهي مكان إقامة رمزي أكثر منها مكان إقامة دائم، وزوجته أصلاً من سكان منطقة تندوف حتى قبل الحرب 1975.

وبحسب صالح خطري “لا يعقل أن نكون في القرن 21، ولا تزال هناك دولة الحزب الواحد، والرئيس هو الأمين العام للحزب ولا يُنتخب من قبل الشعب، بل يُعيَّن في المؤتمر الحزبي، ويرشح الرئيس للبرلمان من يريد، ويعين الحكومة التي يريد، وهؤلاء هم مجموعته الخاصة”.

سألت  الناطق باسم حزب “التجمع الصحراوي الديمقراطي”: هل السلطات المغربية دعمتكم لتأسيس حزبكم  نكاية بـ”البوليساريو”؟  فأكد الرجل أن “علاقتنا مع المغرب معدومة، لأننا ننادي بحق تقرير مصير الشعب الصحراوي، وننادي بالحرية والاستقلال، بينما المغرب يريد من ينادي بالحكم الذاتي”.

هذه كانت كلمات أحد أبناء الصحراء المعارضين لـ”جبهة البوليساريو”، وهناك كلمات لغيره من الصحراويين على مواقع التواصل، ورغم كونهم يعيشون في أراضيهم، وفي مدن مثل العيون والداخلة بعيداً عن المخيمات، وتحت إدارة السلطات المغربية، فإنهم أيضاً لا يناصرون الجبهة، ويحلمون في الوقت نفسه بالاستقلال!

حقيقة لا أعرف اتجاهات سكان مخيمات “تندوف” أنفسهم.. أهُم مع الاستقلال، أم يوافقون على الحكم الذاتي ضمن المملكة المغربية؟ فلا توجد وسيلة إعلام دخلت مخيماتهم ورصدت آراءهم بحرية، لكن استمرارهم في تلك الأوضاع البائسة هو عار يتحمل مسؤوليته كل المتسببين في هذه المأساة.

 المفروض أن يعودوا أولاً إلى ديارهم في مدن ومناطق الصحراء، وأن يتم توفير حياة إنسانية لهم، ثم نترك لهم حرية القرار في الاستفتاء الذي تنادي به الأمم المتحدة، سواء بالاستقلال أو الحكم الذاتي، فضلاً عن الحرية في تشجيع نهضة بركان أو اتحاد العاصمة، إذا جمع الله بين الشتيتين في مباراة بعدما يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا !

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...