أزمة المستقبل الإسلامي

بواسطة | أبريل 3, 2024

بواسطة | أبريل 3, 2024

أزمة المستقبل الإسلامي

عنوان المقال هو أيضاً لكتاب جديد، يصدرُ قريباً بعون الله، وهذا الكتاب يخرج في فترة زمنية حرجة أخرى من تاريخ الوطن العربي، وعلاقته بالفكرة الإسلامية كرسالة إيمان وفلسفة عمران، والمصطلح الأخير هو مركز موضوعي لرسالة هذا الإصدار.

فاليوم، يعيش الوطن العربي وحاضر العالم الإسلامي دورة تفكك جديدة، تُنهك المجتمع والأوطان وحتى الأفراد، فمؤشرات سقوط الدول التي لم تسقط من قبل في وحل السيولة تتعاظم، وتراجُع الحد الأدنى من منظومة الاستقرار الاجتماعي والقيم الأخلاقية مستمر، وحالة التهجير والمآسي الإنسانية تتراكم، دون أفق للحل.

وانتقال دورات الصراع السياسي التي تُشعل فوضى عارمة في الدول مستمر بفعل فاعل، وبعض هذا الفعل تسلل إلى هذه الدولة أو تلك، من خلال أخطاء سياسية أو جهل فكري، أو عجز إداري لفقه الدولة والمجتمع بين مقاصد الشريعة ومعالم البناء الإنساني المعاصر، ولذلك قلتُ إن الإصدار يُمثل محاولة بعث لفلسفة العمران الغائبة، ولكن بلغة مفهومة مبسطة قدر الاستطاعة، فكل فصول هذا الكتاب عندما حُرّرت، كانت ضمن سياق المؤلف وهدفه في مشروعه الفكري، للبحث عن مواضع الخلل، والداء العضال الذي أعاق نهضة هذا الشرق.

نجد هذا رغم أن الشرق يحمل خلطة إنقاذيه لذاته، ودوائية لأسئلة الصراع والتقدم الأخلاقي للضمير الإنساني، وهي المهمة الأخرى التي أَنشغلُ بتحريرها، ليس من خلال نَصب منبرٍ يباهي بالحقيقة الإسلامية، وهي حقيقة مستحقة للاعتزاز، ولكنها تستوجب التفعيل لروحها وتشريعاتها الأخلاقية والعمرانية؛ وهو ما فشل فيه المسلمون في هذه الدورة الأخيرة من تاريخ العالم، وبالتالي تمكنت القوى المعادية لرسالتهم، وللعدالة الإنسانية معاً، من هدم مساحات أخرى من استقرار أوطانهم، وتأميم ثرواتهم، ومواصلة العصف الثقافي الهائل على ضمير الشباب والنشء، واختطاف آخر معالم الإسلام من قلب الذات والمجتمع.

ولستُ هنا أرسم صورة سوداء وهمية، ولكنها حقيقة ماثلة أمام الرأي العام والمراقب الخاص، في سؤاله البسيط: ما هي أحوال المسلمين اليوم؟ وأين هي أوطانهم من معالم الرسالة الإسلامية في العدالة السياسية والاجتماعية، وموقع الحكومات منها، وفي أخلاقيات الفرد والشعوب؟ في حين نُدرك بسهولة هشاشة الممانعة الأخلاقية في الذات الشعبية عند كل دورة تصعيد عنصري، أو إشغال سياسي أو رياضي في توافه الأمور.

 ولم يعد هذا المرض وقفاً على العامة، ولكنهُ أيضاً أصاب بعض النخبة أو أغلبها، من الذين احترفوا خطاب العاطفة الصاخب، ونبذوا بناء المعرفة الواجب، لتأسيس وعي جديد لجيل ينهض بالأمة ولا يغرق في تفاصيل الصراعات، أو المنابر الوظيفية التي تورط فيها أولئك الدعاة والمثقفون الإسلاميون، فزاد الحمل اليوم على دعاة الإصلاح الفكري.

ولسنا نُضيّق واسعاً، ولا نزعم احتكار الرؤية، ولا حتى حبسها في نطاق معين من صياغة مشروع فكري تنهضُ به الأمة، فالقيام بهذا الواجب تتعدد فيه السبل، كما أن حاجة الإنسان المسلم إلى أطر متعددة من الخطاب الديني في تربية النفس، وفي فقه الأحكام وفي غيرها، تخدمها منابر حاضرة، ولا تزال معامل الإيجابية تحرث في هذه الأرض.

 لكننا نعاني ولا نزال من تعطيل فقه حل الأزمات، وبناء الأوطان، ورص المجتمعات، وعضْدها بتعاقد اجتماعي دستوري، لا يُطفّف ولا يتلاعب بالحقوق، تقوم عليه وحدة كل قطر وتقدمه ونهضته، ويُحيّد الفساد إن لم يقتلعه، ولا يجعل الإسلام مطية لسلطته ولمشيخته المتواطئة معه، ولا يتدثر به طائفياً ليصنع عصبية له دون الناس والحق العام، ولكنْ يعود مرجعاً عدلياً وأخلاقياً في ضمير الحاكم قبل وعظ الناس.

 هذا التقدم حين يصل كل قطر، أو حتى بعض أقطار المسلمين، فإن الوحدة الأممية في سبيل مشروع جامع ورادع لأعداء الأمة والإنسانية الحرة، تقوم بهذه النواة دون ثوب فضفاض يزعم الخلافة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليُحقق مطمعاً سلطوياً على حساب الناس باسم زعامة الأمة أو إمامته العامة.

والوصول الى أرضية الخلاص، التي حرص عليها دعاة النهضة الإسلامية الأوائل، لا يزال بعيد المنال مع الأسف، رغم كثرة المحاضرات والإصدارات، بل والفعاليات، منذ إطلاق مصطلح الصحوة الإسلامية.. لكنها لا تزال منقطعة الطرق، متباعدة التوحد والتنسيق، تائهة في الأولويات، إلا ما قل من هذا الجدل الذي يَطرح سؤال الأزمة لكنه لا يواصل الحرث، ولا يقبل التعاون والتعاضد. ولذلك، فهذا المستقبل الإسلامي المنشود، حين نقصد به ما ذكرناه آنفاً من علامات رشد للدولة والمجتمع، يعيش دورةً أخرى من الضياع، تحتاج من جديد أن تُسجَّل معالمها، وأين أخفقت في الوصول إلى الطريق المنقذ.

فالكتاب يُوثق بعض هذه الأخطاء، ويُحاول إعادة طرح رؤية التصحيح المفترضة، التي تنطلق من جديد عبر قاعدة الفكر لا صخب السياسة والمواعظ، ويستدعي نماذج معينة درسناها، لهذا الهدف وللبحث في سؤال الفكر والنهضة. ونأمل أن تمثل فصوله قيمةً ذات شأن، حين يعبر القارئ الكريم إلى ضففه، وأن يجد دلالة العنوان ومقصده، وفي الوقت ذاته أن يجد في المادة نفسها رأي واجتهاد الكاتب في البحث عن المخرج المفترض لهذا المأزق، فيوافقه أو يختلف معه.

 لعلنا ننجح بفضل الله وبركته على هذه الأحرف في مواصلة الطريق، نحو صناعة وعي جديد لجيل نهضة نوعي في فكره، عميق في إيمانه وروحانيته، متميز في أخلاقياته.. فهذا هو هدفنا المركزي للمساهمة في صناعة مستقبل جيل إسلامي، لا ينعزل عن وطنه وشعبه، ولا يجهل الواقع الصعب، ولكن يبعث عقله في أرض الله ليدرك فقه الحياة، الذي يعمر الأوطان ويحرر الضمير المعتقل بين الناس.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...