أمريكا بين حربي إبادة للمسلمين

بواسطة | ديسمبر 10, 2023

بواسطة | ديسمبر 10, 2023

أمريكا بين حربي إبادة للمسلمين

يتناول المقال كلمة الرئيس الأمريكي “جورج بوش” في 1990 وتأثيرها على تشكيل “النظام العالمي الجديد”، مُشيرًا إلى أن الواقع كان مغايرًا، حيث تخلّى التحالف الدولي عن مبادئه في مواجهة إبادة مسلمي البوسنة. ينتقل بعدها للتطرق للإبادة في غزة، مُظهرًا أنها أصبحت واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية.

في شهر أغسطس/ آب من عام 1990، وجه الرئيس الأمريكي “جورج بوش” الأب خطابا إلى الأمة الأمريكية؛ بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج، بعد أسبوع واحد من نشوب أزمة غزو العراق للكويت، وفي معرض حديثه عن هذا القرار، تكلَّم عن فكرة نشوء عصر جديد، تستطيع فيه كل أمم العالم أن تنعم بالحرية وتعيش في سلام، وأشار إلى ذلك بمصطلح «النظام العالمي الجديد».
في حديثه آنذاك أكد بوش أن من مهام هذا النظام البحث عن العدل، وتحقيق الأمن، والتحرر من الإرهاب؛ بينما المصطلح في الحقيقة كان يتحدث بالأساس عن عالم أحادي القطب، تتحكم فيه قوة واحدة هي أمريكا، بعد أن كان ثنائي القطب تتحكم فيه قوتان، حيث كان الاتحاد السوفيتي في هذا الوقت يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد شُيِّعت جنازته في ديسمبر/كانون الأول 1991م، بعد عام واحدٍ من هذا الخطاب.. لكن العالم بنظامه العالمي الجديد، كان على موعد مع أول اختبار لحقيقة تلك الشعارات؛ حيث شهدت أوروبا، في أواخر مارس/ آذار من عام 1992 أول حالة إبادة جماعية منذ الحرب العالمية الثانية.


فمع انهيار الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، ثم تفكك جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية، اشتعلت حرب دموية داخل جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية، التي أعلنت استقلالها للتو؛ فالدولة متعددة الأعراق كانت تاريخيا مقاطعة عثمانية سابقة، الأغلبية فيها من المسلمين ويمثلون 45% من السكان، ويعيش بجانبهم 33% من الصرب و17% من الكُروات؛ إلا أن مباحثات سرية تمت ما بين الرئيس الصربي “سلوبودان ميلوسيفيتش” والرئيس الكرواتي “فرانيو تودجمان”، وهي المعروفة باسم اتفاق “كارادورديفو” في أوائل مارس/ آذار 1991، اتفقا فيها على تقسيم البوسنة، ما بين الصرب والكروات، بعد إنهاء وجود المسلمين فيها.
على إثر ذلك تعرض البوشناق (سكان البوسنة من المسلمين) لعملية تطهير عرقي وحشية، بدءًا من عام 1992 إلى عام 1995، وقدرت لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، المكلفة بالتحقيق في جرائم الحرب، عدد القتلى بنحو 200 ألف قتيل، غالبيتهم من المسلمين، بالإضافة إلى تهجير مليون ونصف المليون مسلم، وتسجيل ما يقرب من 60 ألف حالة اغتصاب لنساء مسلمات، لم يسلم منها حتى الأطفال، وقد نشرت الغارديان تقريرا عن اغتصاب طفلة عمرها 4 سنوات، بعنوان: “الطفلة التي ذنبها أنها مسلمة”، ووصفت المذابح الدموية بأنها حربُ “قروسطية”، تنتمي للقرون الوسطى وليس للقرن العشرين.
وقد شهدت سنوات الحرب الثلاث حصارًا وقتلًا وتجويعًا وتعذيبًا رهيبًا، ارتكبت القوات الصربية فيها أكثر من 26 مذبحة، اشتُهر منها فقط مذبحة “سيربرينيتشا”، التى راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف مسلم بوسنوي في يوم واحد، بالتواطؤ مع القوات الهولندية الأممية التي كانت مكلفة بحماية المدينة؛ بالإضافة إلى ذلك تم تدمير أكثر من 650 مسجدًا، بعضها يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر الميلادي، وإحراق مكتبة سراييفو التاريخية، بما تحويه من كنوز علمية وثقافية عديدة.


في البداية، جاء الموقف الأمريكي من الحرب شديد التضارب والغموض، ثم اتضحت بعد ذلك تمامًا ملامح التواطؤ والتآمر على إبادة مسلمي البوشناق؛ فالدولة التي حركت جيشها، وكوّنت تحالفًا دوليًّا لتحرير الكويت، بدعوى رفض مبدأ الاعتداء على الغير، وتحقيق العدل، ونشر السلام، اكتفت بتهديدات جوفاء للجيش اليوغوسلافي الذي ارتكب فظائع يندى لها الجبين، بل وتآمرت مع حلفائها الأوروبيين على منع البوسنيين من حقهم في الدفاع عن أنفسهم، باستمرار حظر توريد السلاح للشعب الذي يُقتل ويدك بالقذائف المدفعية ليل نهار.
في كتابه “أشرطة كلينتون” كشف الصحفي الأمريكي “تايلور برانش” عن توجيهه سؤالا للرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” (الذي كان يحظى بصداقة شخصية معه) عن سبب موقف أمريكا المتخاذل من تلك الإبادة، فأجاب بأن زعماء أوروبيين صرحوا له: “أن ما يحدث في حرب البوسنة والهرسك مؤلم، لكن لا بد منه لإعادة بناء أوروبا المسيحية، من دون مسلمين”. بالتأكيد، ستتساءل بينك وبين نفسك الآن: أين هي إذًا قيم التسامح وحرية المعتقد والتعايش السلمي، التي يتشدق بها الغرب في كل وقت وحين؟! أين هي أوروبا المتحضرة، وعلومها الإنسانية، وثقافة الحداثة، وعصر الأنوار؟! أكانت أمريكا، زعيمة هذا النظام العالمي الجديد، صادقة في رغبتها بتحقيق العدل والسلام حين انغمست في حرب تحرير الكويت، أم إن الأمر لا يعدو كونه بحثًا عن مصالحها، ورغبةً في السيطرة على نفط الخليج؟!. إن كل تلك الشعارات البراقة التي ترفعها أمريكا، كي تُقدم نفسها كحامي حمى الديمقراطية والعدل والحريات، لا أساس لها على الإطلاق.


وفي غمرة التساؤلات، يصفعنا التاريخ مجدّدًا لنجد أنفسنا أمام صفحات جديدة، كُتبت فيها بمداد من دماء وأشلاء إبادةٌ جماعية، ربما تكون الأشد ضراوة عبر التاريخ.. محرقة بشرية صنعتها إسرائيل على أرض غزة، يتم بثها على مدار الساعة وعلى الهواء، تدمير عشوائي نازي لكل ما يعلو على سطح الأرض، داخل مساحة جغرافية هي الأشد اكتظاظا بالسكان بين مدن العالم.
لكن أمريكا، وبالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، لم تكتف هذه المرة بالتواطؤ أو الخذلان، بل قررت أن تكون شريكا رئيسًا في حرب الإبادة منذ اليوم الأول لها، بدءًا من تسخير آلتها الإعلامية الجبارة في ترويج الأكاذيب والروايات المغلوطة التي نسجتها إسرائيل عن عملية طوفان الأقصى، ذلك الهجوم الذي شنته كتائب المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من هذا العام، ردا على احتلال غاشم يحاصر غزة، وينتهك أبسط حقوق شعبها الآدمية منذ 16 عامًا. ويستمر بعد ذلك تأكيد مشاركة أمريكا في الحرب، بإعطائها التأييد المطلق لدولة الاحتلال حقَّ الرد على الهجوم بالشكل الذي تراه مناسبا، لإعادة هيبتها العسكرية والقضاء على حماس؛ ثم باستعمالها حق الفيتو أكثر من مرة في مجلس الأمن الدولي، لمنع صدور قرارات تدين إسرائيل، أو  تدعوها لوقف عدوانها الهمجي على المدنيين من سكان القطاع؛ وانتهاءً بإقامة جسر جوي عسكري لتزويد الجيش الإسرائيلي بكل ما يحتاجه من أسلحة وذخائر وجنود ومعدات.


وبعد مرور ما يقرب من شهرين على بدء الحرب، وارتقاء أكثر من 15 ألف شهيد، وسقوط عشرات الآلاف من الجرحى، وتدمير 300 ألف وحدة سكنية بشكل كلي أو جزئي (ما يعني دك 60% من مباني قطاع غزة وبُنيته التحتية)، مع استهداف متكرر للمدارس واقتحام للمستشفيات، بل وقصف لمراكز إيواء النازحين التابعة للأمم المتحدة (كاستهداف مدارس الأونروا، التي قتل بداخلها المئات من نساءٍ وأطفال)، بالإضافة إلى التقارير الصحفية والحقوقية، التي تتحدث عن استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دولية، كقنابل الفسفور الأبيض الحارقة.. بعد ذلك كله، فوجئنا بوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” يخرج علينا بتصريح يقول فيه: إن وزارته لم ترَ أي دليل بعد، على تعمد إسرائيل قتل المدنيين!!

حتما ستنتهي فصول تلك الإبادة المروعة يومًا ما، وقتلى أبناء غزّة في الجنة، أما من تبقى منهم على قيد الحياة، فقد ضرب أعظم الأمثلة في التضحية والثبات.. وقد حققت المقاومة الإسلامية “حماس” مكاسب كبرى من عملية طوفان الأقصى؛ كإعادة القضية الفلسطينية للواجهة، وتوحيد القلوب والجهود حولها من جديد، وتعريف الجيل الحالي من أبناء المسلمين بقضيتهم الأولى وبأهمية المقدسات، وفضح خيانات أنظمة عربية، وكشف تآمرها، والوقوف بوجه مخططات تهويد القدس والتوسع الاستيطاني المحموم، والتطبيع الإسرائيلي العربي، الذي كان يجري على قدم وساق؛ مع استباق إفشال مخططات اقتحام غزة وتهجير أهلها للسيطرة على ثرواتها من آبار الغاز، بالإضافة إلى إعادة تقديم الدين الإسلامي للعالم بأسره، من خلال المشاهد العظيمة لصبر أهل غزة، وتعامل المقاومة المُذهل، مع الأسرى الصهاينة.


وبخلاف تلك المكاسب الكبرى كلها، يبقى انتصار المقاومة الأهم على الإطلاق في تحطيمها صورة الجيش الإسرائيلي إلى الأبد، حين باغتته وأوجعته، ومرَّغت كرامته في التراب، ومازالت مستمرة في إيقاع الخسائر الضخمة به على أرض القتال؛ كما تحقق لها ذلك الانتصار أيضًا في نجاحها في تفكيك الدعاية الإسرائيلية والأمريكية بالكامل، وكشف وتعرية وجه العدو الحقيقي للأمة الإسلامية (الغرب الصليبي بقيادة أمريكا)، الذي جعل من الكيان الصهيوني ذراعه للسيطرة على المنطقة.
والانتصار الأهم يأتي كذلك في التمهيد -بإذن الله- لانتهاء عصر الهيمنة الأمريكية، عقب تدمير صورتها كشرطي للعالم، وحامي حمى الديمقراطية وحقوق الإنسان.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...