إستراتيجية إسرائيل لحسم الصراع.. ركائز وأثمان

بواسطة | مايو 2, 2023

بواسطة | مايو 2, 2023

إستراتيجية إسرائيل لحسم الصراع.. ركائز وأثمان

تقدم الحكومة الإسرائيلية، تحت تأثير قوى اليمين الديني المشاركة فيها، الكثير من المؤشرات التي تدلل على أنها جادة في تطبيق إستراتيجيتها الهادفة إلى حسم الصراع، وتصفية القضية الوطنية الفلسطينية؛ بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات.
وتقوم إستراتيجية حسم الصراع، كما تعكس ذلك سياسات حكومة بنيامين نتنياهو، على أربع ركائز أساسية:

توسيع نطاق السيطرة على الأرض.
إحداث تحول على الميزان الديموغرافي لصالح اليهود.
تهويد المسجد الأقصى.
تجفيف بيئة المقاومة.

فعلى صعيد حسم السيطرة على الأرض، شرعت الحكومة الإسرائيلية في خطوات عملية تهدف إلى تقليص قدرة الفلسطينيين، في الداخل والضفة الغربية والقدس المحتلة، على البقاء على أراضيهم.

تنص خطة فسرلاوف على منح كل شاب يهودي يتسرح من الخدمة العسكرية حديثا دونما من الأراضي، التي تتم مصادرتها من أراضي الفلسطينيين في النقب والجليل.

فقد تبنت حكومة بنيامين نتنياهو الخطة، التي بلورها وزير النقب والجليل يوسيف فسرلاوف، الرجل الثاني في حركة “المنعة اليهودية” الدينية المتطرفة، التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الهادفة إلى مصادرة مساحات واسعة من أراضي فلسطينيي الداخل في النقب والجليل. وتنص خطة فسرلاوف على منح كل شاب يهودي يتسرح من الخدمة العسكرية حديثا دونما من الأراضي، التي تتم مصادرتها من أراضي الفلسطينيين في النقب والجليل. ولم يجد فسرلاوف حرجا في إبراز المسوغ العنصري وراء مقترحه، حيث حاجج بأن قانون “القومية”، الذي أقره البرلمان الإسرائيلي “الكنيست” قبل ثلاثة أعوام، يوجب منح “مزايا تفضيلية” لليهود على الفلسطينيين.
في الوقت ذاته، أعلن فسرلاوف، بوصفه مسؤولا عن إدارة سياسة الحكومة في النقب والجليل، أنه سيتم إخضاع تقديم الخدمات في هاتين المنطقتين، اللتين تضمان الأغلبية الساحقة من فلسطينيي الداخل، لمعيار الولاء لـ “دولة إسرائيل”. وينطلق فسرلاوف، كما زعيمه بن غفير، من افتراض مفاده أن أي سلوك يتبناه فلسطينيو الداخل يعبر عن انتمائهم للشعب الفلسطيني، يعد تآمرا على “الدولة”. 
ولا تهدف خطة فسرلاوف إلى السيطرة على الأرض فقط، بل ترمي أيضا إلى التخلص من الثقل الديموغرافي لفلسطينيي الداخل، أو تقليصه إلى حد كبير على الأقل. فقد نص البرنامج العام لحركة “المنعة اليهودية” التي ينتمي إليها، والذي على أساسه خاضت الانتخابات الأخيرة، على التزامها بتهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة.
أما في الضفة الغربية، فيتم تطبيق إستراتيجية “حسم الصراع” على نطاق واسع؛ حيث اتخذت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من القرارات الخطيرة، على رأسها: بناء آلاف الوحدات السكنية للمستوطنين اليهود على أراضي فلسطينية خاصة، والسماح للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنات في شمال الضفة الغربية تم إخلاؤها في 2005، ضمن خطة “فك الارتباط”. ولا تكتفي حكومة نتنياهو بالسيطرة على أكبر مساحة من الأراضي في الضفة الغربية، بل باتت تمهد لضم الأراضي التي دشنت عليها المستوطنات اليهودية هناك إلى إسرائيل. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، خصصت الحكومة مؤخرا ميزانية ضخمة لتدشين شبكات من الطرق والبنى التحتية الهادفة إلى تعزيز ربط تلك المستوطنات بإسرائيل.

إن إستراتيجية إسرائيل الهادفة إلى تهويده ترمي في المرحلة الأولى إلى تحويله من مكان مقدس للمسلمين إلى مكان مقدس مشترك للمسلمين واليهود، ثم إلى مكان مقدس لليهود فقط.

ويبدو تطبيق إستراتيجية حسم الصراع في القدس المحتلة أكثر وضوحا وفجاجة، حيث تقوم على مركبين أساسيين، وهما: بناء المزيد من الأحياء الاستيطانية لليهود، والتوسع في تدمير منازل المقدسيين في شرقي القدس بحجة البناء بدون ترخيص؛ وهو ما يفضي إلى اضطرار الكثير من العوائل الفلسطينية إلى ترك المدينة والتوجه إلى الضفة الغربية.
وفيما يتعلق بالمسجد الأقصى، فإن إستراتيجية إسرائيل الهادفة إلى تهويده ترمي في المرحلة الأولى إلى تحويله من مكان مقدس للمسلمين إلى مكان مقدس مشترك للمسلمين واليهود، ثم إلى مكان مقدس لليهود فقط. وقد عبرت الحكومة الإسرائيلية عن هذا التوجه عبر السماح بزيادة أعداد المستوطنين، الذين يدنسون المسجد الأقصى، وتمكينهم من أداء الصلوات التلمودية ورفع الأعلام الإسرائيلية داخله؛ في ظل محاولة قهر الوجود الإسلامي داخله عبر تبني سياسات قمعية وحشية، تهدف إلى تقليص عدد المسلمين الذين يتوجهون للصلاة والاعتكاف فيه. وتعد مجاهرة بن غفير، بوصفه وزيرا إسرائيليا، بالدفاع عن حق اليهود في الصلاة في الأقصى، أحد التحولات التي طرأت على سياسات إسرائيل تجاه المسجد. وقد شجعت سياسات الحكومة الإسرائيلية جماعات الهيكل اليهودية، التي تطالب ببناء الهيكل على أنقاض الأقصى، على إعلاء صوتها وتقديمها مخططا إلى كل من نتنياهو وبن غفير، يهدف إلى التمهيد لتهويد المكان، يشمل: إعلان الحكومة عن الأقصى كمكان مقدس لليهود، تدشين مؤسسة دينية يهودية تعنى بالإشراف على المسجد، والسماح للمستوطنين بتدنيسه في كل أيام الأسبوع ومن جميع البوابات.
ونظرا لإدراك الحكومة الإسرائيلية أن إنجاز إستراتيجية حسم الصراع يتطلب تقليص قدرة الفلسطينيين على التصدي لها وإفشالها، فقد كان تجفيف بيئة المقاومة إحدى الركائز الرئيسة في هذه الإستراتيجية. فقد كثف جيش الاحتلال مداهماته وتنفيذ عمليات الاغتيال في جميع أرجاء الضفة الغربية، وتحديدا في المناطق التي تحظى فيها المقاومة ومجموعاتها المسلحة بحضور قوي، مثل مدن: جنين، نابلس، وأريحا.
وتلعب الجماعات اليهودية المتطرفة دورا مهما في مساعدة الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ إستراتيجية الحسم، من خلال إسهامها في السيطرة على الأراضي الفلسطينية، عبر تدشين النقاط الاستيطانية وشنها هجمات وحشية على المزارعين الفلسطينيين؛ كما عكست ذلك الفظائع التي ارتكبها عناصر هذه الجماعات عندما هاجموا بلدة “حوارة”، وسط الضفة الغربية، قبل شهرين.

مما يفاقم الأمور تعقيدا أن إسرائيل تمر حاليا بظروف داخلية بالغة الصعوبة بفعل الاستقطاب الداخلي الحاد، الذي خلفه طرح الإصلاحات القضائية، مما أسفر عن بروز مظاهر التشظي المجتمعي بشكل غير مسبوق

ولم يكن من سبيل الصدفة أن يمنح نتنياهو وزيرَ المالية ورئيسَ حركة “الصهيونية الدينية” بتسلال سموتريتش الحق الحصري في الإشراف على المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية؛ حيث إن الأخير كان أول من بلور إستراتيجية “حسم الصراع” في 2017، في مقال نشرته مجلة “شيلوح” الناطقة بلسان التيار الديني القومي. وهو ذاته سموتريتش الذي أثار مؤخرا ضجة كبيرة عندما دعا صراحة إلى “محو” بلدة حوارة، وجاهر بعرض خارطة لـ “إسرائيل الكبرى” تضم إلى جانب فلسطين التاريخية، الأردن وأجزاء من سورية ولبنان.
لكن، سيتضح لإسرائيل أن محاولة تطبيق إستراتيجية “حسم الصراع” سيكون مرتبطا بدفعها أثمانا أمنية وسياسية واقتصادية باهظة؛ فاستهداف الأرض والأقصى والوجود الديموغرافي الفلسطيني، ذلك كله سيفضي حتما إلى تفجر الفعل المقاوم في كل فلسطين التاريخية، سيما وأن موجة عمليات المقاومة الفردية لازالت حاضرة بقوة. ويدل إطلاق عشرات الصواريخ على العمق الإسرائيلي من جنوب لبنان قبل شهر، ردا على قمع إسرائيل للمعتكفين في الأقصى، على أن إستراتيجية حسم الصراع قد تفضي إلى إشعال مواجهة شاملة على عدة ساحات في آن.
ومما يفاقم الأمور تعقيدا أن إسرائيل تمر حاليا بظروف داخلية بالغة الصعوبة بفعل الاستقطاب الداخلي الحاد، الذي خلفه طرح الإصلاحات القضائية، مما أسفر عن بروز مظاهر التشظي المجتمعي بشكل غير مسبوق، وتآكل التأييد الجماهيري الذي تحظى به حكومة نتنياهو، كما عكست ذلك نتائج استطلاعات الرأي العام الأخيرة.
 ونظرا لتواضع إسهام جماهير الأحزاب الدينية، التي تدفع نحو تبني إستراتيجية حسم الصراع، في تحمل عبء الخدمة العسكرية، فإن قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي ترى أن حكومة نتنياهو لا تحوز على الشرعية الداخلية، التي تؤهلها لدفع إسرائيل إلى مسار يفضي إلى اشتعال مواجهة عسكرية مكلفة لـ “الدولة” والمجتمع، سيما في ظل اتساع رقعة الدعوات في أوساط العلمانيين اليهود للتوقف عن أداء الخدمة العسكرية احتجاجا على إصلاحات الحكومة القضائية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...