إسرائيل.. أسئلة البقاء وأزمة الوجود

بواسطة | أكتوبر 7, 2023

بواسطة | أكتوبر 7, 2023

إسرائيل.. أسئلة البقاء وأزمة الوجود

موضوع الهجمات الأخيرة على غلاف غزة وعمق إسرائيل، ليس مرتبطا فقط بسؤال العقد الثامن، وفرضيته التي تقول إن اليهود لم تصمد لهم دولة أكثر من 80 عاما.. دعونا من لغة الأرقام وحديثها، ولندخل إلى تفاصيل التاريخ ومعطياته، فلغة الأرقام في الأمور التاريخية المتشابكة مع الأديان والفلسفات قد لا تحمل الكثير من الدلالات، بقدر ما تحمل رموزا ساحرة وجاذبة وحسب.
فأزمات إسرائيل الراهنة نتاج طبيعي للأزمات المتراكمة في بنية المجتمع اليهودي، التي أنتجتها الظروف التاريخية التي عاشها اليهود في المجتمعات المختلفة، والتي لم يحمل لها الناس -على الأقل في عالمنا المسلم- كثيرا من الضغينة وسوء الظن، مثلما ينظرون اليوم للصهيونية كحركة سياسية.
بذور بعيدة
الديانة اليهودية -كغيرها من أديان السماء- حفلت بالحث على العدالة، والاهتمام بصيانة حق الأرملة والمسكين، فلطالما نادى أنبياء بني إسرائيل، بعد داود وسليمان عليهما السلام، بالتأكيد على هذه المسائل كجزء من الإصلاح الاجتماعي والسياسي؛ فالفرقة السياسية، وانقسام المملكة، وانحرافات المجتمع التي سجلها الكتاب المقدس اليهودي، دفعت الأنبياء لحث  الشعب على العودة في المثال الديني للديانة الموسوية، وفي المثال السياسي للمثال الداودي السليماني.
وإذا كان د. محمد خليفة حسن في كتابه عن الديانة اليهودية، يشير للمشكلات الاجتماعية، واحتكاكات الرعاة والمزارعين في مجتمع بني إسرائيل، فإن القرآن الكريم يشير لمشكلة الزرع الذي أفسدته غنم جماعة أخرى، فاشتكى الطرفان لداود عليه السلام، فحكم سليمان عليه السلام بحكم ألهمه الله إياه، وخلده التراث الإسلامي والحديث النبوي في حكم جرى عليه الفقهاء لاحقا، يمكن الرجوع إليه في مظانّه الفقهية.
وبعد تفرق المجتمعات اليهودية في الأرض، ظل المجتمع اليهودي منظما داخليا بصورة رأس الجالوت، رئيس الجالية اليهودية أو المجليين عن الأرض المقدسة؛ يعاونه الديان، القاضي المسؤول عن تفسير الشريعة وتطبيقاتها للمجتمع اليهودي المحلي، ويعاونه من جانبه الآخر الناغيد (الغين تنطق جيما قاهرية)، المسؤول عن القضايا المالية، وعند الاقتضاء عن الأمور الأمنية، بينما تكفل الحاخامات بالشعائر والتعليم الديني، وهم يمارسون مهنا أخرى في الحياة العامة غلب عليها الطب، والصيدلة، والصيرفة، والتجارة.
ولهذا، فصراع السلطة القضائية في إسرائيل اليوم ليس إلا معركة يسيرة تعبر عن إشكالية فلسفية ودينية كبيرة، تمس صميم المجتمع، وتشعره بكثير من القلق؛ وأنا لست متأكدا من مدى تأييد المتدينين لنتنياهو في معركته لكسر استقلال القضاء، ولكن مما لا شك فيه أن أي محاولة لتمرير هذه الإصلاحات ستسبب شرخا في مجتمع، يدرك من تاريخه وكتابه المقدس وتجارب الشعوب الديمقراطية أيضا، أن استقلال القضاء خط أحمر.
التنوير الأوروبي وأزمة الهوية
إن تجارب الشعوب الأوروبية منذ الإصلاح البروتستانتي، والتسليم بحريات الاعتقاد، وإنهاء حالة الجيتو التي عزلت اليهود عن المجتمع، وكفلت في المقابل التماسك الداخلي لهم، أدّت مع التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر إلى أن تصالحت الدول مع اليهود، ومنحتهم مواطنتها، التي تفترض تساويهم مع غيرهم؛ وعاش اليهود فورة جديدة، فدخل مفهوم القومية قاموسهم، وطرح السؤال حول طبيعة اليهودية، وما إن كانت ديانة أم قومية أم الاثنين معا، كما تسربت الأفكار الإصلاحية إلى المجتمع.
من شرق أوروبا بدأت فكرة الصهيونية تبرز عبر شخصيات ككليتشر، والحاخام يهودا القالي، ولكنها عرفت تبلورها الأبرز مع اليهودي العلماني ثيودور هرتزل. ومع مشكلة الكابتن دريفوس في فرنسا، بدأ هرتزل في التفكير نحو حل الإشكال اليهودي، ربما لم تكن المشكلة السبب المباشر، لكنها كانت تلخيصا للمشكلة التي عاشها اليهود طوال قرنين سابقين، حيث لم يجر احتضان اليهود اجتماعيا في القوميات الأوروبية، ولم يجر في الوقت ذاته التعامل معهم كقومية، فبقوا في وضع مرتبك.
ولم تنج الصهيونية من تداخلات أخرى، فقد برزت صهيونيتان، الأولى دينية تؤوِّل الأفكار الدينية لصالح الرؤية الصهيونية الجديدة، والصهيونية العلمانية التي تؤمن بأن النبوءات تتحقق بأيدي الناس، وليس بأيدي القدر، ولهذا فالدولة قومية علمانية؛ بل برزت الصهيونية الثقافية التي آمنت بأن فلسطين مركز ثقافي ليس أكثر.
أشكناز.. سفارديين
لم يواجه السفارديون، أو يهود المشرق العربي والإسلامي، المسار التاريخي القلق نفسه، بل على العكس كانوا في حالة اندماج شبه تام في الحضارة الإسلامية، تأثروا بها، وتركوا بصمتهم في علومها وحياتها اليومية، فالطبيب والصيرفي والتاجر من اليهود كانوا جزءا ليس فقط من الشارع في أي مدينة مسلمة، بل ومن الجدال الفلسفي، والحوار العلمي، والبلاط السلطاني.
فالجيتو يختلف عن حارة اليهود، فحارة اليهود كانت تجمّعا ثقافيا دينيا، يخرج منه اليهودي ويعود إليه، مدركا حقوقه وواجباته في الدولة، والحياة العامة؛ يدرس توراته، ويعلم اليهود وغيرهم الطب والرياضيات، ويناقش منافحا عن ديانته التي يؤمن بها، ويتمتع بحريته في التعبير عن شعائره الدينية؛ كما لم تحدث مذبحة منظمة بقصد إبادة اليهود، ولم يتعرض اليهود للهجوم على كنسهم إلا في حوادث نادرة، كانت الحكومات تتدخل فيها لحلها وإيقافها، ولهذا بقي اليهود مستقرين بصورة عامة، حتى إن الفكرة الصهيونية لم تجد الرواج ذاته بينهم، وعندما تتحدث عن هجرتهم لإسرائيل تكتشف أنها جرت في جو قلق مشحون، بسبب ظروف نشوء إسرائيل وما فعلته بالفلسطينيين، أما عدا ذلك، فكثير من مثقفي يهود المشرق في الحقيقة ما زالوا يتذكرون أيامهم القديمة في العراق، وسوريا، ومصر، والمغرب، واليمن، بل يصرح بعضهم بحزنه على اضطراره للخروج من هناك.
وبطبيعة الحال، فإن الشتات اليهودي والتنوعات اللغوية تركت بصمتها على أنماط التدين التي يتبناها اليهود، بداية من طقوس الصلاة اليومية، وانتهاء بالتفاصيل الأخرى؛ فالسفارديون متأثرون بالتراث الأندلسي، والمغربي في فترة نهوض الثقافة اليهودية هناك في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وبصمات موسى بن ميمون الواضحة على اللاهوت والفلسفة، والتصوف لاحقا، خلافا للأشكناز الذين صاغوا تراثهم الديني وطقوسهم الدينية في سياقات مختلفة.
كل هذا يترك بصماته على التوجهات الدينية والاجتماعية اليوم في إسرائيل، فإسرائيل اليوم في تديُّن يهودها خليط، ترى فيه ملامح الشتات اليهودي الطويل؛ فأنت ترى كنسا للتيار الإصلاحي الذي يمارس نمطا حداثيا أمريكيا من العبادة، والفهم للديانة والحياة، والدور العالمي للإنسان اليهودي، بينما يغلب على يهود شرق أوروبا النمط الأرثوذكسي المحافظ، أو حتى الحريدي الأكثر تدينا، والذي ترتدي نساؤه النقاب، وقد أفتى حاخاماته بحرمة الهاتف ذي الكاميرا قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما، والسبب أنه يمكن تصوير ما لا يجوز رؤيته من الأشياء المثيرة للغرائز الجنسية… وهكذا قس.
ومن جانب آخر، تجد التيار العلماني أو اليساري، أو حتى الملحد الذي يعد نفسه يهوديا لمجرد الانتماء للشعب اليهودي، ويمارس الطقوس باعتبارها فلكلورا، أو إرثا تاريخيا يتمثله، ويحتذيه.
معطيات الفسيفساء..
هذا المزيج كله جعل إسرائيل تسير لليوم بقوانين الأساس لا بدستور مكتوب، فالمتدين يريد التوراة دستورا لإسرائيل، والإصلاحي يرى أن كثيرا من التشريعات في كثير منها تعبر عن التاريخ اليهودي، وليست كلها قابلة للأخذ بها. في المقابل، فإن كل التنوعات بداية من الأشكناز وانتهاء بالفلاشا، تعبر عنها تكتلات مختلفة، وتفاصيل يومية يحتك بعضها ببعض، وتنتهي لكوارث أمنية، كما حدث في انتفاضة الفلاشا مثلا، ومعارك سياسية تجد تعبيرها في المستوى الضعيف لكثير من الساسة، الذين وصلوا إلى مناصبهم لمجرد تمثيلهم لكتل انتخابية كبيرة تتبنى آراء معينة، ومتناقضة مع الآخرين.
إذن فليست مشكلة الإصلاحات القضائية، ولا الائتلافات الهشة، ولا حتى غلاف غزة واختراقه من قبل المقاومة، بل إنها أعمق بكثير من ذلك.. إنها أزمة ترجع لأزمات السبي البابلي وما تبعه، وهو ما ينبغي علينا فهمه واستيعابه للتعامل مع هذه الدولة بالوعي الكافي، بما يكفل لنا فعلا سياسيا ناضجا، واستيعابا لدروس التاريخ، وفعلا ناجحا في المستقبل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...