الأيام

بواسطة | أبريل 21, 2023

بواسطة | أبريل 21, 2023

الأيام

هي أيام ليست كالأيام!
الأيام العادية نسميها أياما، لكن هذه ليست أبدا كذلك. إنها رحلة طويلة من الصبر والمعاناة، من قرية صغيرة وكُتَّاب في أقاصي الصعيد جنوب مصر إلى وزير التعليم ورائد الثقافة والفكر، وبينهم جامعة السوربون، وسعي دائم إلى اكتساب المعرفة والاجتهاد فيها.
إنها سيرة رجل أعمى، كفيف البصر، لكنه كما قال نزار قباني في ذكراه التي أقيمت في كرمة ابن هانيء: “ما أنت بأعمى إنما نحن جوقة العميان”.
لم يكن طه حسين شخصا عاديا، لكنه أحد أبطال الحياة في المقاومة والصلابة والصمود، صارع ليحقق أحلامه ويواجه واقعه الأليم.
أعدت قراءة “الأيام”، وهي مذكرات الدكتور طه حسين الصادرة عن دار المعارف، والتي يتحدث فيها د. طه عن طفولته ومولده عام ١٨٨٩، ورحلته مع الأيام، وينهي الجزء الثالث منها بعد صدور تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، ولم تصدر أجزاء أخرى على الرغم من أن رحيله كان عام ١٩٧٣.
في الجزء الأول تناول نشأته في قريته وسط عدد كبير من إخوته، وتعلُّمه في كُتاب القرية، وحفظه القرآن الكريم ثم نسيه له، ولجلجته أمام والده حين أخبره شيخ الكتاب أن ابنه حفظ القرآن، فأُتيَ به ليسمع، لكنه نسي الآيات تماما وتلجلج ثانية.
في الكُتَّاب يتلو الآيات دون لجلجة، لكنه أمام أبيه في البيت يتلجلج للمرة الثالثة، فيعقد له اختبارا آخر بعد فترة، فيقرأ ما تيسر، بل ويحفظ بعد ذلك ألفية ابن مالك، ويقص حكايات عديدة عن الفقر والمرض والإهمال والجهل الذي تعاني منه القرى في مصر، مما جعله يفقد عينيه، وأدى إلى موت أخته الصغيرة بسبب إهمال مرضها، ثم موت شقيقه بعد ذلك بسبب الكوليرا.
في الجزء الثاني من المذكرات يتحدث طه حسين عن انتقاله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف، ثم التحاقه بالجامعة الأهلية، جامعة القاهرة. لم يكن طه مقتنعا بمشايخ الأزهر، وكان دائم النقد لهم. سكن طه حسين بين المجاورين في حي الأزهر الشريف في غرفة نادرة الأثاث في ربع من ربوع الأزهر، وكان جادا مجدا مجتهدا على الرغم من عدم قناعته الكاملة بالدراسة الأزهرية. وفي هذه الفترة عرف طريقه إلى الصحافة، فتعرف على أحمد لطفي السيد والشيخ عبد العزيز جاويش اللذين لعبا التأثير الأكبر في حياته في هذه المرحلة، فالأول كان محرضه على الاعتدال والقصد، والثاني كان محرضه على الغلو والاسراف، وقد بدأ نشر بعض المقالات من خلالهما في جريدة العلم، وهاجم مشايخ الأزهر وانتقدهم، ووصل الأمر لمنعه من الحصول على الشهادة الثانوية. انتسب لجامعة القاهرة مع بداياتها، وحقق نجاحا باهرا في علومها وآدابها، والتقى بالسلطان مرة وبالخديوي مرتين نتيجة لتفوقه.
سافر إلى باريس بموجب منحة من الجامعة، بعد رفضه عدة مرات لأنه أعمى، ولأنه غير حاصل على الثانوية ولأنه لا يجيد الفرنسية، فصبر حتى تعلمها وطلب المنحة، فسُمح له بعد امتحانه في رسالته للحصول على العالمية، والتي كانت موضوعاتها: تاريخ أبي العلاء المعري، الجغرافيا عند العرب، الروح الدينية للخوارج. وقد نجح في الثلاثة.
انتظم في السوربون، بعد أن سكن في الحي اللاتيني بجوار الجامعة، وقرر الحصول على الليسانس ثم الدكتوراه، والتقى سوزان، زوجته بعد ذلك، التي قال عنها: المرأة التي أبصرتُ بعينيها. أجاد الفرنسية، بل وتعلم اللغة اللاتينية.

قديما قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية مقترحا إلى سعد زغلول الذي كان رئيس لجنة الاقتراحات، بقطع الحكومة معونتها عن جامعة القاهرة لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة “ذكرى أبي العلاء”، وهو طه حسين!.

أرسلته جامعة القاهرة  للحصول على الليسانس، فاجتهد للحصول على الليسانس والماجستير والدكتوراه، وحقق حلمه بالفعل. واختار تاريخ ابن خلدون ليكون موضوع رسالته. والجامعة الفرنسية تشترط قبل الدكتوراه مناقشة الطالب في موضوعين تختارهما له، فناقشت طه في علم الاجتماع كما يتصوره أوجست كونت، وفي القضايا التي رفعت على حكام الأقاليم، كما يصورها بلينوس الشاب في رسائله، وهو كاتب لاتيني قديم.
أما موضوع الدراسات العليا فاختارت له الجامعة أن يكون “القضايا التي أقيمت في روما على حكام الأقاليم الذين أهانوا جلال الشعب الروماني كما صورها المؤرخ”تاسيت”.
نجح في هذا كله، وفي باريس التقى سعد زغلول والوفد الذي سافر من أجل عرض قضية استقلال مصر، وكان لسعد دين عليه وهو في مصر، فقديما قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية مقترحا إلى سعد زغلول الذي كان رئيس لجنة الاقتراحات، بقطع الحكومة معونتها عن جامعة القاهرة لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة “ذكرى أبي العلاء”، وهو طه حسين!.
وطلب منه سعد العدول عن المقترح، لكنه وبعد نقاش طويل رفض، فقال له سعد: إن أصررت على موقفك فإن اقتراحا آخر سيقدم، وفيه طلب الحكومة قطع معونتها عن الأزهر، لأن طه حسين تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة، فسحب صاحبنا مقترحه.
في باريس شكر طه سعد على الموقف القديم، وشكره على خدمة مصر وتضحيته في سبيل الوطن والشعب.
كان سعد مغموما حزينا بعد منعه والوفد من الذهاب إلى مؤتمر الصلح لعرض قضية مصر؛ وسأله طه عما يدرس فقال: أدرس التاريخ.
قال سعد إنه لا يؤمن بصدق التاريخ، بسبب ما يرى من التضليل والأكاذيب، التي تنشرها الصحف في مصر وباريس عنه وعن الوفد وعن مصر، وأنه يائس.
قال طه: وكيف تيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ، ودعوتموه فاستجاب؟.
قال سعد: وماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلا عن أن يثور بأصحاب القوة والبأس؟
طه: هو الآن أعزل، ولكنه سيجد السلاح غدا.
سعد: وأين يجده؟
طه: إن الذين يُهرِّبون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا لنا الأسلحة.
أغرق سعد في الضحك ثم انصرف، ولم يلتقيا إلا بعد عام في باريس أيضا.
بعد عودة طه حسين إلى مصر كان من أكثر الناقدين للوفد ولسعد، وانحاز لصالح وزارة الثقة أو الحكومة في أن تفاوض الإنجليز بقيادة عدلي باشا من أجل استقلال مصر، لا أن تفاوض الوفد بقيادة سعد زغلول، وغرق طه في السياسة ومشاكلها واكتوى بنارها لأنه -كما قال- كان يعرف نفسه حين يشقى في سبيل ما يرى أنه الحق، وينكرها أشد الإنكار بل يبغضها أشد البغض إذا نعم بالخفض واللين، لأنه صانع أو داجى، أو جهر بغير ما يسر، أو آثر رضا السلطان على رضا الضمير.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...