البامية السلطاني!

بواسطة | أبريل 1, 2024

بواسطة | أبريل 1, 2024

البامية السلطاني!

عرفت مكاوي سعيد من وسط القاهرة، وجمعنا حب القاهرة ووسطها، وكان هو ومحمد صلاح من توليا إصدار وتوزيع الطبعة الأولى من كتابي “رسائل المشاهير” في القاهرة، الذي طبعته دار شادي زاهد في السعودية، وكثيرا ما جمعتني لقاءات وجلسات مع العم مكاوي على قهوة البستان، لم تغب عن ذاكرتي هذه الجلسات وأنا أطالع سِفره البديع “القاهرة وما فيها.. حكايات، أمكنة، أزمنة”، وفيه مصر زمان بجمال أمكنتها، ومجد مبدعيها، وحكايات سلاطينها وملوكها ووزرائها وساستها وفنانيها.

من الشخصيات التي تناولها الروائي مكاوي سعيد الشاعر بيرم التونسي، الذي دفع ثمن موقفه السياسي والوطني غاليا، وأُغلقت الصحف التي كتب فيها ومُنعت مقالاته، ورفضت الرقابة منحه تصريحا لإصدار صحيفة أو مجلة، فأصدر في الإسكندرية مجلة باسم المسلة، كتب تحت الترويسة “المسلة لا صحيفة ولا مجلة”، ولم يكتب “العدد الأول” بل كتب “الجزء الأول”، طبع منها 5000 نسخة ووضع عليها صورته، ونزل ليوزعها بنفسه على المقاهي، وفي محطات القطار وفي الترام، ولأصحاب الدكاكين وفي دواوين الحكومة.. حدث ذلك في 4 مايو 1919، وقد احتوى العدد على مقالات تهاجم الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتعنى بمشاكل الناس وهمومهم، وفيها نقد سياسي تجاه الديون التي يكابدها الشعب المصري، فكتب على طريقة الزجل :

بعت عفشي وبعت ملكي وبعت بابي
والطاحونة والحمار والبطانية
اسأل البنك العقاري وبنك رومة
تعرف المبلغ وشيكات العزومة.

العدد الثاني من المسلة صدر في القاهرة بعد سفر سعد باشا زغلول والوفد المصري إلى باريس لعرض القضية المصرية، وفي العدد هجوم عنيف على الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية الذي عارض سفر سعد زغلول، واختلافه مع وجهات النظر الوطنية.. بعد صدور العدد هاج الشيخ بخيت وماج، ثم أصدر بيانا اتهم فيه بيرم التونسي بالكفر والإلحاد.

مضى بيرم في إصدار مجلته حتى العدد الـ 13، الذي هاجم فيه السلطان فؤاد وابنه فاروق، فأصدر السلطان أمرا بإغلاق المجلة.. التفّ بيرم على الأمر، فأصدر مجلة أخرى أسماها “الخازوق”، لم يصدر منها سوى عدد واحد تمت مصادرته، وصدر قرار نفي بيرم عن مصر!

لم تكن مجلة الخازوق وحدها سبب نفي بيرم، بل كان في كواليس النفي حكاية:

سرت شائعات في مصر عن علاقة عاطفية بين الأميرة فوقية ابنة السلطان فؤاد، وحسين باشا فخري محافظ القاهرة، وأن محافظ القاهرة رفض الزواج من الأميرة واقترح تزويجها بشقيقه محمود باشا فخري مفوض مصر في فرنسا، وتم الأمر كذلك! وأعجبت بيرم الشائعة، فكتب زجلا عنوانه “البامية السلطاني”، سرى بين الشعب المصري سريان النار في الهشيم، نشره في المسلة قبل إغلاقها، بدأ زجله بـ:

البت ماشيه من زمان تتمخطر
والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر
تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكي
والست خيل والقمشجي الملاكي

…………

الوزة من قبل الفرح مدبوحة
والعطفة من قبل النظام مفتوحة.

كتم السلطان غيظه لكيلا يزيد الإشاعة انتشار وتصديقا، لكن بيرم لم يكتم.. رُزق السلطان فؤاد في 11 فبراير 1920 بابنه البكر الأمير فاروق -الذي صار الملك فاروق فيما بعد-، تسرب منشور إلى الجماهير المصرية يتضمن تعريضا بمولد فاروق على أنه حدث قبل سبعة أشهر من الزفاف، تلقف بيرم التونسي المنشور وصاغه زجلا:

اسمع حكاية وبعدها هأهأ
زهر الملوك في الولد أهو طأطأ
مالناش قرون كنا نقول مأمأ
وناكل البرسيم بالقفة.

لم ينشر بيرم هذا الزجل، لكن تناقلته العامة في كافة ربوع البلاد، وبعد ذلك نشر في “المسلة” قصيدة البامية السلطاني والقرع الملوكي، وكلها قدح في السلطان فؤاد وابنه الأمير فاروق وابنته الأميرة فوقية.. جن جنون السلطان، وطلب من فرنسا طرد بيرم من مصر، إذ كان بيرم تحت رعاية دولة فرنسا، التي كانت تتدخل في شؤون مصر تحت زعم حمايتها للأجانب، فنُفي إلى تونس وعمره 27 عاما، فقالوا عنه مشاغب وباعث ثورات، ومنعوه من ممارسة أي نشاط سياسي أو صحفي، لذا لم يقض في تونس سوى أربعة أشهر، سافر بعدها إلى فرنسا متنقلا بين باريس وليون ومارسيليا.

في المنفى عاني بيرم من الفقر والجوع والغربة، ثم تسلل مرة أخرى إلى مصر بعد تزوير جواز سفره، واختبأ عند أبناء عمومته في الأنفوشي في بورسعيد ثلاثة أشهر، ذهب بعدها إلى القاهرة حيث تولى تحرير جريدة الشباب لصاحبها عبد العزيز الصدر، دون وضع اسمه على ما يكتب من مواد صحفية أو زجل، لكن السلطات علمت بوجوده بعد سنة وشهرين، فقُبض عليه للمرة الثانية، وتم ترحيله إلى فرنسا في 25 مايو 1923، وعند وصوله إلى فرنسا قال: “إذا كان أهل السياسة لم يشعروا بوجودي حينئذ، فقد شعر بي الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عني وعن أمكنة وجودي وحركاتي وسكناتي فرحّلوني من جديد خارج مصر”.

لم ينس بيرم ثأره مع الملك فؤاد، وصدر تصريح 28 فبراير 1928، الذي اعترفت فيه بريطانيا بالاستقلال الذاتي لمصر، ومن ثم أعلن فؤاد مصر مملكة بدلا من سلطنة، ليصبح فؤاد الملك فؤاد الأول، فيكتب بيرم التونسي هذا الزجل:

ولما عدمنا بمصر الملوك
جابوك يا فؤاد الإنجليز وقعدوك
تمثل على العرش دور الملوك
وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
وخلوك تخالط بنات العباد
على شرط تقطع رقاب العباد
وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد
على البنك تشحت شوية زتون
بذلنا ولسه بنبذل نفوس
وقلنا عسى الله يزول الكابوس
ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس
لا مصر استقلت ولا يحزنون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...