“الجريمة المقدسة”

بواسطة | أبريل 22, 2024

بواسطة | أبريل 22, 2024

“الجريمة المقدسة”

جثث دون رؤوس، أجساد دون جلود، وبعضها سُرقت أعضاؤها!. المشهد ليس لقطة في أحد أفلام الخيال العلمي الهوليودية، بل هو مشهد حقيقي في سياق حكاية عن أطول احتلال عسكري في العصر الحديث، تدعمه القوى العالمية العظمى، وتتواطأ معه على أعدل قضايا الأرض.

هذا المشهد بات أكثر  المشاهد رعباً وبشاعة في سيناريو هذه الحرب غير العادلة وغير متكافئة القوى، التي يحياها سكان غزة منذ قرابة الـ199 يوماً، المليئة بتفاصيل يشيب شعر الولدان لفظاعتها التي تعدت استيعاب العقل البشري، الذي يميل دوماً لنكران كل ما لا يتصوره العقل؛ لكن ذلك يتأكد أمام صدق البصر الذي يشاهد ما تتناقله وسائل الإعلام الحر من مشاهد، تستطيع أن تشتمَّ فيها رائحة الدم من خلف الشاشات لغزارة الدماء، وكلها تجري أمام عالم اختار أن يقف موقف المتفرج على شعب تمارَس ضده أبشع أنواع الجرائم؛ ابتداءً من الحصار، مروراً بالتهجير القسري والتجويع، وصولاً إلى القتل العمد والتمثيل بالجثث وسرقة أعضائها، بالاستناد إلى شهادات ذوي الشهداء.

هذا المشهد المتكرر وقائعه واحدة، إلا أن الاختلاف في المكان.. فقد عمدت قوات جيش الاحتلال إلى تحويل محيط مستشفى ناصر الطبي في مدينة خان يونس – الواقعة في الجزء الجنوبي من قطاع غزة- إلى ثكنة عسكرية، وتبع انسحابها بعد ذلك اكتشاف مقبرتين جماعيتين في المستشفى، حيث أنشأت هذه القوات مقبرة داخل أسوار مجمع ناصر لإخفاء جرائمها، التي ارتكبتها بحق من كانوا في المجمع من مرضى وكوادر طبية وتمريضية، ومن المرجح وجود 700 شهيد في مقابر جماعية، أعدمهم الاحتلال داخل المجمع، كما أعدم العشرات من النازحين والجرحى والمرضى والطواقم الطبية، وهناك العشرات ممن كانوا بمجمع ناصر لا يزال مصيرهم مجهولا بعد انسحاب الاحتلال، بالاستناد إلى المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الذي طالب بفتح تحقيق دولي لمعرفة أسباب تبخر وتحلل جثث بعض الشهداء، الأمر الذي يرجح استخدام جيش الاحتلال أسلحة محرمة دولياً.

هذه المرحلة من الفظائع، التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق سكان غزة العزل مع ضمانات التملص من العقوبة، لاسيما المقابر الجماعية، وتشويه الجثث بهدف طمس حقيقة ما ينفذه جيش الاحتلال بالغزيين قبل إعدامهم.. هذا كله يثير العديد من الشبهات والشكوك حياله، خاصة وأنَّ إسرائيل تمتلك أكبر احتياطي من الجلد البشري، يصل إلى 17 مترا مربعا، ويُعدّ هذا الرقم هائلا إذا ما قورن بعدد السكان من الإسرائيليين؛ وإن المخاوف والشكوك نفسها هي التي تجيب على تساؤلات الكثيرين حول أسباب سرقة جثث الفلسطينيين وتشويهها.

 يسير ذلك في سياق واحد مع اعترافات لمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى، أقروا في تحقيق تلفزيوني بثته القناة العاشرة الإسرائيلية بأخذ أعضاء من جثامين الشهداء الفلسطينيين، لاستخدامها في علاج مواطنيهم، وهذا لم يحدث فقط في مستشفى ناصر الطبي، بل إن المرصد الأورومتوسطي قد وثق احتجاز جيش الاحتلال لجثث الشهداء في مجمع الشفاء الطبي في غزة، وفي المستشفى الأندونيسي شمال القطاع، وأخرى من محيط ممر النزوح إلى وسط جنوب القطاع، الذي حدده على طريق صلاح الدين الرئيسي؛ إذ عمد جيش الاحتلال إلى نبش مقبرة جماعية أقيمت وقتها في إحدى ساحات مجمع الشفاء الطبي، وتم استخراج جثث الشهداء واحتجازها، وفي حينها أثار المرصد الأورومتوسطي شبهات سرقة أعضاء من جثث الشهداء.. وبالاستناد إلى أطباء في غزة، أجروا فحصا سريعا لبعض الجثث التي أُفرج عنها آنذاك، تبين سرقة أعضاء منها كقرنية العين، وقوقعة الأذن، والكبد، والكلى والقلب!

إنَّ ما يقوم به جيش الاحتلال هو تنفيذ دقيق للمشروع الصهيوني، المبني على إقصاء واستئصال الآخر بهدف الحلول محله في الفضاء الجغرافي، مستمداً هذه الخصائص البنيوية في الاستئصال والإقصاء من مصدرين؛ أحدهما الفكر الاستيطاني الأوروبي منذ أواخر القرن التاسع عشر، الذي بسط سلطته بعمليات ممنهجة استهدفت استئصال السكان المحليين من مواطنهم، ووضعهم في معزل عن الأوروبيين، أما المصدر الثاني فهو ما استعاره المشروع الصهيوني من مفردات الكتاب العبري، ليشكل منها مضمونه الأيديولوجي بما في ذلك التأسيس للفكر الإبادي، بل أيضا إسباغ صفة القداسة عليه.. إذ بيَّن الدكتور عصام سخنيني في كتابه “الجريمة المقدسة” أنَّ المشروع الصهيوني الاستيطاني يستهدف اجتثاث الفلسطيني من أرضه من الجذور، من خلال إبادة الجنس والتطهير العرقي وإبادة الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وكلها مجتمعةً تقوم حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذها كلمة كلمة وحرفا حرفا.

خـتـامـا..

في اليوم الـ198 للحرب الشعواء التي تشنها إسرائيل على سكان غزة، ارتكب الاحتلال 5 مجازر ضد العائلات في قطاع غزة، وبنتيجتها وصل إلى المستشفيات 48 شهيدا و79 مصابا خلال الـ24 ساعة الماضية، وقد تجاوزت حصيلة الشهداء الـ34 ألفاً، وبلغ عدد المصابين 76980 منذ السابع من أكتوبر 2023..

لا ينبغي أن نعتاد المشهد، ولا أن ننسى بأنَّ وراء هذه الأرقام التي تذيَّل بها التقارير الصحفية أشخاصا لهم على جدران منازلهم بقايا ذكريات، وكان لهم حلم نبيل في أن تتنفس فلسطينهم الحرية.. فلا تعتادوا المشهد.

1 تعليق

  1. HUSSAIN MOHD

    لم و لن نسسى أستاذه .. بورك قلمك أستاذه هديل

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...