الجند والمال | أسئلة الولاء والنظم المختلفة

بواسطة | يوليو 14, 2023

بواسطة | يوليو 14, 2023

الجند والمال | أسئلة الولاء والنظم المختلفة

قد يكون عجبا أن تستعين روسيا بشركة أمنية، وتسلحها وتدربها؛ وليس عجيبا أن تكون للدولة السودانية ميليشيا تفرض ما تزعم تلك الدولة أنه هيبتها. وليس أعجب بعد هذا كله من استمرار الاستقرار، وأن يبقى سيفان في غمد واحد.
فالنظام العاجز عن حل مشكلاته، أو إيجاد مخارج لمسارات أعماله غير الرسمية، قد يتورط في إيجاد مؤسسات رديفة للجيش، تنتهي لما انتهى له الحال مع فاغنر ومع الدعم السريع؛ لكن الأمر ليس وليد اليوم.
فقصة القوط تعتبر نموذجا تاريخيا جيدا على محاولة استيعاب كتلة بشرية معينة، وتجنيدها بالارتزاق، ومحاولة امتصاصها، ثم تغلب هذه الكتلة على النظام ككل!. لقد قاتل القوط بشجاعة الرومان طوال القرن الرابع الميلادي، ثم قررت الإمبراطورية الرومانية ضمهم لجندها؛ فكثروا وتحكموا في الجيش الروماني، ثم في مصير الإمبراطورية بالكامل عام 410م، ليشكّل سقوط روما لاحقا بيد البرابرة عام 476م بداية العصور الوسطى.
موضوع الجند، وأرزاقهم لم يكن مقلقا للساسانيين الذين اعتمدوا على النبلاء، وتجنيد المقاتلين بصورة منظمة خاصة في عصور أنوشروان؛ ولم يكن مقلقا للبيزنطيين كثيرا لاتباعهم النظام ذاته. أما المسلمون فقد اعتمدوا على الوازع الديني في فتوحهم، فلم تكن أرزاق الجند، أو فكرة الارتزاق واضحة تماما عندهم.
حتى في الفتنة الكبرى التي قسمت المسلمين بدا جليا ارتباط الطابع الاجتماعي بالطاعة والجندية، فجنود العراق الذين كانوا سيف علي رضي الله عنه، كانوا في الأصل أهل بادية لم يألفوا الطاعة المطلقة للأمير، وتجلى هذا في الأصل في شكاواهم، وتذمرهم من الولاة بداعٍ، وبلا داع، بينما كان جند الشام من القبائل اليمنية التي ألفت النظم الملكية القديمة، فمالوا للطاعة، وألفوا معاوية رضي الله عنه، فانقادوا له. لهذا يلاحظ أن الدولة الأموية لم تعانِ من شغب الجند بسبب أرزاقهم، وإن واجهت الثورات العقائدية المختلفة، وتخلخل نظام جندها بسبب تغيير تحالفاتها في العهود الأخيرة، وميل خلفائها المتأخرين للقيسية على حساب اليمنية، ولم تفلح محاولات استدراك هذا الأمر.

بهذا الحكم البويهي بدأ عصر حكم الجند المرتزقة، فالدولة البويهية، وإن كانت سلالية، لكن نموذجها كان ملهما لمن بعدها.

أرزاق البيعة أول الوهن
يعتبر المؤرخ المصري القدير الراحل حسين مؤنس أن أول علامات ضعف دولة بني العباس قد وقع في بيعة المهدي العباسي، حيث شاغب الجند مطالبين بأرزاقهم، وهو الأمر الذي تحول لتقليد عباسي أرهق كاهل الخلافة لاحقا، حيث ظل توزيع الرواتب المتأخرة علاوة على ما عرف بأموال البيعة على الجنود بندا في الميزانية، يبتز به قادة الجند الخلفاء؛ وبمقتل المتوكل، سهل مقتل من بعده بهذه الحجج.
ولعل هذا راجع بدوره لتخلخل الرابطة الاعتقادية التي قامت عليها دولة بني العباس من التعصب لبني هاشم؛ فمع مصرع أبي مسلم، وتصفية جيل النقباء القدامى، وظهور طبقة الوزراء الجدد، لم يعد لدى الجنود ذات الوازع الذي قاتلوا به ابن هبيرة والي العراق الذي فر مهزوما، تاركا خصمه قحطبة بن شبيب الطائي مقتولا في ساحة المعركة، ومنتصرا في نتيجتها حيث أكمل ابنه الحسن مهمته.
تعقد موقف الدولة العباسية أكثر باستجلاب المعتصم للأتراك، حيث تحولوا لعامل شغب في سياق الدولة، وسلموها فيما بعد لطبقة من الأمراء المتعبين، فوصيف، وابنه صالح، وبغا، وابنه موسى، وأشناس، وغيرهم، تحولوا لطبقة من القادة، وكثير منهم كان مملوكا في الأصل، وكانوا يحتفظون بالخلافة من باب الحفاظ على الشرعية الدينية التي لا يستطيعون تجاوزها، ويعبثون بالنظام الداخلي للدولة، والطريف أنهم حافظوا على النظم الإدارية قائمة وناجحة.
لكن الصفاريين يبقون حالة مختلفة، فأبناء الليث الذي كان يعمل في صناعة النحاس تحولوا لمجموعة من قطاع الطرق، ثم انطلقوا أواسط القرن الثالث الهجري ليسيطروا على شرق إيران الحالية، ويمدوا طموحهم نحو بغداد، لتنهار دولتهم سريعا؛ لكن نموذجهم ظل ملهما حتى اكتمل على يد أبناء بويه الذين قاتلوا أيضا في صفوف مرداويج الديلمي في صراعاته المحلية في شمال غرب إيران الحالية، لينحدروا منها قادةً لمجموعات متفرقة من الجند الديلم، ويدخلوا بغداد عام 333هـ معلنين نهاية العصر العباسي الأول بصورة تامة.
بهذا الحكم البويهي بدأ عصر حكم الجند المرتزقة، فالدولة البويهية، وإن كانت سلالية، لكن نموذجها كان ملهما لمن بعدها. فالإخشيديون والحمدانيون كانوا قادة عسكريين متنوعي المهارات والقدرات، وأسسوا دولا، ولكنهم لم يكونوا مرتزقة بالصورة التي نعرفها، كما جرى مثلا مع المماليك.
ابن عكاشة قاطع الطريق قاتل الملوك
حريز بن عكاشة الأندلسي قاطع الطريق السابق كان مرتزقا آخر استخدمه آل ذي النون للاستيلاء على قرطبة، درة الأندلس ومخطوبة ملوك طوائفها المتناحرين، حيث تركوه يتسلل لقرطبة مرارا، ورغم تنبيهات وزراء الظافر بن المعتمد بن عباد فإنه لم يهتم، لينتهي الأمر بالظافر مقاتلا شجاعا ضد ابن عكاشة، وقتيلا بيده يتركه ملقى عاري الجذع، حتى غطاه رجل لا يعرفه أحد من باب المروءة.
وانتقم المعتمد بن عباد لابنه الظافر، وقتل ابن عكاشة، وصلبه وبجواره كلب ميت انتقاما لابنه؛ فقاتل الملوك ينبغي أن يكون ملكا لا لصا مرتزقا..

العثمانيون أنفسهم بدأوا جنودا متطوعين للقتال مع السلاجقة، ليصبحوا لاحقا بعد كارثة الهجوم المغولي نهاية القرن الثالث عشر على جنوب الأناضول ورثة للحكم السلجوقي المتأخر هناك

المماليك.. الحكام الأرقاء
في اليمن ظهر الحكم المملوكي قبل مئتي عام من نظيره المصري، حيث حكم بنو نجاح الأحباش المماليك تهامة، وزبيد وما حولها، ليسودوا في الفترة ما بين أوائل القرن الخامس ومنتصف السادس الهجريين، مقدمين نموذجا متفردا في الحكم السلالي بعد أن كانوا مماليك؛ ويتلوهم مماليك نجم الدين أيوب في تحولهم لحكام، لتسعفهم الأقدار بسقوط الخلافة العباسية، فامتلكوا الشرعية من جهتين:
الأولى: حماية الإسلام بالانتصار في عين جالوت، والثانية: تقليد الخليفة العباسي لهم للحكم باسمه بعد تحوله للقاهرة.
العثمانيون أنفسهم بدأوا جنودا متطوعين للقتال مع السلاجقة، ليصبحوا لاحقا بعد كارثة الهجوم المغولي نهاية القرن الثالث عشر على جنوب الأناضول ورثة للحكم السلجوقي المتأخر هناك، حيث انتقلوا منها ليصبحوا حكما سلاليا يكرر تجربة الإنكشارية التي تحكمت طويلا في تعيين السلاطين.

هذا الجيش شكّل الإنكشارية التي أصبحت القوة الضاربة، الأكثر ولاء للدولة وتأثيرا في تحركاتها

دفشرمة.. بكيجاري.. إنكشاري
في البلاد المفتوحة يقال إن العثمانيين طلبوا من السكان جنودا يقاتلون معهم، فكان الأبناء ينضمون للسكن، والعيش، والتربية الدينية التي تتضمن حفظ القرآن، والولاء للدولة، وعرف ذلك بنظام الدفشرمة أي اللحم الحي، وكان صاحب هذه النظرية وزير يقال إن اسمه قرة خليل، وهو الذي سمى هذا الجيش بكيجاري أي الجيش الجديد.
بغض النظر عن التفاصيل، فإن هذا الجيش شكّل الإنكشارية التي أصبحت القوة الضاربة، الأكثر ولاء للدولة وتأثيرا في تحركاتها؛ وكانت في البدايات تتسم بالتوقيت، بمعنى أنها تسرح وقت انتهاء المهام، ولكنها لاحقا أصبحت دائمة. ومع جمودها، والرغبة في إصلاح الدولة، حصل الصدام بين النظام والجند ..
الجند قاموا بقلب القدور أمام ثكناتهم في اسطنبول، فأنذرهم السلطان؛ ولما لم يستجيبوا، وقعت المذبحة، ودكت ثكناتهم تماما، وأعلن إنهاء الإنكشارية وأن الجيش أصبح جيشا حديثا، وذلك عام 1826م.
لم يعن هذا نهاية الجيوش الرديفة، ففي الوقت الذي أنهى العثمانيون فيه الإنكشارية، كانوا يُجهزون على الإمارات الكردية في شمال العراق، وحكمها الذاتي، ولكنهم اضطروا لاحقا لإنعاش نظام الجيوش الرديفة، فسمحوا بتأسيس الخيالة الحميدية، وترك الحرية لشيوخ العشائر الكردية بتأسيس قواتهم الخاصة لحل مشكلاتهم، وهذه القوات لم تخل أيضا من ملامح قومية مختلفة أحيانا.
على أي حال، مع انتهاء الحكم العثماني كان الزعماء الأكراد قادرين على لعب دور سياسي، كما كان للأمراء البدرخانيين، وإسماعيل آغا سمكو، وآل البرزنجي الذين وصل زعيمهم محمود البرزنجي ليكون ملكا لكردستان إبان ثورة العشرين.

فاغنر بدورها تعبير عن هشاشة مستبطنة في الكيان الروسي الضخم، وارتباك في شبكات الاتصال داخله، علاوة على أزمة أراد تصديرها بالحرب في أوكرانيا، فتحولت الحرب لأزمة جديدة

فاغنر حميدتي وأشياء أخرى
بلاك ووتر، وما شابهها من شركات أمنية ذات طبيعة غامضة؛ وفاغنر، الأخطبوط الممتد في أرجاء كثيرة، وقوات الدعم السريع التي نفذت مهاما سيئة الصيت من قبل في دارفور.. كلها نماذج للجيوش الرديفة.
فعجز كثير من النظم السياسية عن حل القضايا الداخلية بالطرق الاعتيادية، يعبر عن مشكلة في بنية هذه النظم، وعن خلل في شرعيتها، ويعبر في الوقت ذاته عن عجز عميق عن امتلاك البصيرة السياسية، وعجز عن التواصل مع المجتمع وقواه بصورة طبيعية تسمح بإيجاد الحلول. فحرس القطار الذين شكّلهم برمة ناصر لحماية القطارات في دارفور في الثمانينات، ثم الجنجويد الذين لبوا حاجة نظام الإنقاذ في التعامل مع الحركات الدارفورية، أنتجوا كوارث حقيقية انفجرت في وجوه الناس في الخرطوم، معبرة عن عجز الدولة ونخبتها وساستها ومنطقها في مواجهة الحراك الاجتماعي، والحاجات المطلبية.
فاغنر بدورها تعبير عن هشاشة مستبطنة في الكيان الروسي الضخم، وارتباك في شبكات الاتصال داخله، علاوة على أزمة أراد تصديرها بالحرب في أوكرانيا، فتحولت الحرب لأزمة جديدة؛ وأن يقفز مزود طعام ليصير مسؤول شركة أمنية، ثم منافسا لكبار الجنرالات هو مؤشر على أن خللا ما ينادي بإصلاحه.
إن النظم التي تعجز عن إدارة مشكلاتها وإيجاد مخارج منطقية لمغامراتها تلجأ للمرتزقة والتنظيمات العسكرية الرديفة، لتكتشف لاحقا شأنها عبء عليها لا يحتمله النظام.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...