الدراسات الاجتماعية وأهميتها في بلورة القرار السياسي

بواسطة | يوليو 4, 2023

بواسطة | يوليو 4, 2023

الدراسات الاجتماعية وأهميتها في بلورة القرار السياسي

جون جوردون لوريمر، المسؤول الإنجليزي في الخدمة المدنية الهندية، وفي أثناء عمله في الهند عام 1903، استدعاه رئيسه وطلب منه الإصغاء له بانتباه.. “مطلوب منك برفقة فريق بحثي صغير تجميع معلومات، وإعداد كُتيِّب عن ساحل الخليج العربي، ولإتمام المهمة أمامك ستة أشهر”.
ذهب لوريمر إلى المنطقة، وبسبب تعقيداتها الكثيرة أدرك استحالة إنهاء المهمة في مدة الأشهر الستة؛ فالمنطقة مجهولة له، والدراسة يجب أن تكون دقيقة!. تنقل بحماس بين قراها وبواديها وموانيها، ليستمر في بحثه مدة عشر سنوات، ويُخرج بعدها أهم مرجع تاريخي عن الخليج العربي، لا يمكن إلى اليوم الاستغناء عنه، ويعرف باسم (دليل الخليج).
وللعلم، فذلك الكتاب السري فيه سبر لأغوار المجتمع الخليجي ودقائق خصوصيته وجغرافيته، والتركيبة الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية لمجتمع غارق في البدائية.. دراسة ساعدت بريطانيا العظمى على التمسك بقوة بالمنطقة، ليُطلب بعد ذلك من كل مسؤول بريطاني يُرسل إليها أن يقرأ ما كتبه لوريمر، ليأتي وهو على معرفة تامة بمكان عمله الجديد. ولم يوقف لوريمر جهده في منطقة الخليج، بل تغلغل في عمق المكون البشتوني البالغ الغموض، ليصدر كتابا عن القانون العرفي والمدني لدى المجتمع البشتوني، وقواعد اللغة البشتونية ومفرداتها.
ومن المعلوم أن الإمبراطورية البريطانية مدينة في اتساعها لهؤلاء الرجال العظام أصحاب الهمم الفولاذية، وكذلك فإن المجتمع الإنساني محظوظ بتوفر تلك الحصيلة العلمية الرائعة، التي ما زالت لها أهميتها حتى يومنا هذا.
نذهب للأمام مع بواكير الاكتشافات النفطية السعودية في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، إذ بسبب حاجز اللغة أنشأ الأمريكيون، الشركاء في شركة أرامكو، ما سمي (شعبة البحوث العربية والترجمة)، وظهر أن الغرض من تلك الهيئة ترجمة جميع الوثائق العربية إلى اللغة الإنجليزية، ولكنه كان لها غرض بحثي مهم جدا.

الدراسات الاجتماعية، الغرض منها تعزيز قدرة السياسي في واشنطن على اتخاذ القرار الصحيح، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع القوى المحلية، أو مع الدول الاستعمارية صاحبة الأطماع والنفوذ في بعض أجزاء المنطقة وفي نقاط التماس معها

وفي عام 1944 استدعت الشركة الدكتور جورج رينتنز ليترأس هذه الوحدة، وهو مؤرخ أمريكي وباحث في اللغة العربية، في عقده الرابع وله حصيلة أكاديمية رائعة؛ فقد حصل على البكالريوس في الرياضيات وعمل بشهادته،  ليعود مرة أخرى بعد أن استهواه مجال التاريخ ويدرس التاريخ في مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراة؛ وقد جذبته المنطقة العربية خلال فترة عمله في سوريا لمدة ثلاث سنوات، فدرس اللغة العربية على يد أحد المستشرقين، وكانت أطروحته للدكتوراة في جامعة كاليفورنيا بعنوان (محمد بن عبدالوهاب، بداية الإمبراطورية الموحدة في الجزيرة العربية). جاء إلى المنطقة يتملكه شغف كبير وحماس منقطع النظير لمعرفة التشابكات القبلية، من خلال معرفة موسوعة القبائل وأنسابها وشخصيات العوائل المالكة، بشكل يساهم في خدمة منظومته الاقتصادية؛ فوضع خطة للدراسة تختلف عما قام به الآخرون قبل ذلك، واعتمد مصادرَ كثيرة في تدوين بحوثه، فاستلهم مادته من العلماء الناطقين باللغة العربية، والمراسلين السياسيين، والتحدث مع السكان المحليين، وزيارة أماكن وجود الناس..
لم يغفل عن شيء يعزز دراسته، حتى إنه في أحد بحوثه، وهو الذي حمل عنوان (الروافد الشرقية لمقاطعة الإحساء)، قام بحساب الزكاة لمعرفة ثروة دافعها، وخلُص في بحثه إلى أنه إذا أخرج أحدهم زكاة ماله ماعزا متوسط الحجم، فذلك يعني أنه يمتلك خمسة جمال بصحة جيدة، لا تستخدم في المهام السهلة؛ وبذلك عرف بدقة، من خلال الزكاة، الإمكانات الاقتصادية الموجودة لدى الأفراد. وقد أخرج رينتنر بحوثا رائعة أسهمت في تسليط الضوء على جوانب كثيرة في المنطقة، وترك حصيلة معرفية من الدراسات، تضمنتها مجموعة أوراق وصور ومراسلات، في صندوقين كل منهما بطول ثلاثة أقدام، وتحتفظ بهما الآن جامعة جورج تاون، بعد أن تبرعت بهما ابنته للجامعة بعد وفاته عام 1987.
تلك الدراسات الاجتماعية، الغرض منها تعزيز قدرة السياسي في واشنطن على اتخاذ القرار الصحيح، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع القوى المحلية، أو مع الدول الاستعمارية صاحبة الأطماع والنفوذ في بعض أجزاء المنطقة وفي نقاط التماس معها، فدول الخليج الناشئة لم ترسم الحدود بشكل نهائي في طور التشكل. وقد عززت الثورة النفطية أهمية تلك الدراسات لتكون خارطة طريق في مسيرهم، لأن أي خطوة خاطئة قد تكلفهم الكثير، وإن خصوصية المنطقة مع عدم امتلاك معلومات كافية عنها عززت أهمية تلك الدراسات. فعلى سبيل المثال، رأى رينتنز وفريقه أن الزكاة، وهي الشعيرة الإسلامية، أداة مفيدة لإرساء السيادة في القانون الدولي، فذلك يعني أنه يمكن لزعيم دولة بدأ يتشكل كيانه السياسي التمسك بملكية دولته لمساحات جغرافية كبيرة تقطنها قبيلة وتؤدي له الزكاة.
عوداً على بدء، فإن تلك الدراسات التي تنتمي لتخصصات لا نلقي لها اليوم بالا، كانت مفتاح نجاح لدول كبيرة عظمى في حفظ مصالحها؛ فدراسة الخريطة الجغرافية، والتوزيع السكاني، وحتى طبائع بعض حكام المنطقة، شكلت جانبا مهما جدا لدول عظمى قررت الاستفادة من الثورة الكبرى التي انفجرت في المنطقة وموقعها الجغرافي. وللعلم، بقيت تلك الدراسات لسنوات في طور السرية تُدفع الرشاوى الكبيرة للحصول عليها، إلى أن قام لها أناس أعادوا نشرها مرة أخرى، ولعل قطر كانت صاحبة الريادة في نشر دراسة (دليل الخليج) لمؤلفها لوريمر في فترة حكم الشيخ أحمد بن علي، رحمه الله، وأعيدت طباعتها زمن الشيخ خليفة بن حمد، رحمه الله؛ ومؤخراً طُبعت بشكل مميز وإضافات، وقد عززت الدراسة زمن حكم الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، حفظه الله. وهناك طبعة أخرى أمر بها السلطان قابوس، رحمه الله، ولكن أعدادها محدودة بسبب توقف طباعتها.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...