الرؤية والإنكار

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

الرؤية والإنكار

تتناول هذه المقالة التفاعل مع القضية الفلسطينية والتصدي للآراء المؤيدة للصهاينة على وسائل التواصل الاجتماعي. يتناول الكاتب الفارق بين الرؤية والتعامل مع هذه القضية، مؤكدًا على أهمية التفرغ لمحتوى إيجابي وعدم التفاعل مع الآراء المعادية.

الصهيونية والتاريخ

كل قضايا الحياة يمكن الاختلاف حولها، لكن هناك فرقًا بين الرؤية وبين التعامي أو الإنكار.. كثيرًا ما تعرض لي على السوشيال ميديا بعض الآراء المؤيدة للصهاينة أو اللائمة لحماس، هنا تأتي دهشتي ولا أقول صدمتي؛ أنا لا أتابع مثل هذه القنوات التي تطلق علينا المؤيدين للصهاينة ولا أسمعهم، لكنها السوشيال ميديا تلقي بهم أمامي، لا أقف أمام أحاديثهم ولا أهتم، بل دعوت كثيرين أن لا يهتموا، فالاهتمام هو الذي يوسع من انتشار أفكارهم.

بقليل من الثقافة يعرف أي إنسان أن الصهيونية حركة سياسية، انتهت إلى زرع “إسرائيل” وسط العالم العربي ليظل في صراعات وتخلف؛ بل وبقليل من الدراسة يعرف الباحث عن الحقيقة أنه حتى هتلر، وهو الذي أحرقهم، كان يتعاون معه بعض الصهاينة في ما يفعله حتى تزداد حركة الهجرة إلى فلسطين، وأن اتفاقية “هافارا” عام 1933 بين هتلر والوكالة اليهودية الصهيونية ساهمت بشكل أكبر مما فعله هتلر في تنشيط هجرة اليهود، فكانت هجرتهم نظير التخلي عن ممتلكاتهم لدولة ألمانيا، وهاجر حوالي ثلاثة وخمسين ألفًا حتى عام 1939، وكانوا يمثلون حوالي 52% من المهاجرين الذين استقروا في فلسطين ذلك الوقت، كما سمحت الاتفاقية لليهود بنقل جزء من أموالهم في صورة بضائع ألمانية، ما أنعش الاقتصاد الألماني وفقا لما كتبه الكاتب الفرنسي اليهودي المصري الأصل آلان جريش في كتابه “علامَ يُطلق اسم فلسطين”.

دور القنصليات الأجنبية

بقليل من المعرفة يدرك من يريد كيف كانت فلسطين مفتوحة لهم، ويعرف من باعهم من السفارات والقنصليات الأجنبية أراضٍ في فلسطين.. كتبٌ كثيرة تناولت جوانب من هذه المسألة، لكن الدكتورة الفلسطينية نائلة الوعري تناولتها بشكل متكامل في كتابها “دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914″، الذي كتبتُ عنه مقالًا منذ حوالي عام، أوضحتُ فيه كيف اعتمدت الدكتورة نائلة  في كتابها على وثائق منشورة وأخرى غير منشورة، وأراشيف سرية وأراشيف غير سرية، في عواصم دول ساهمت قنصلياتها في هجرة اليهود، وكيف كان لهذه السنوات أثرها الكبير في استيطان اليهود أو احتلالهم، فهي سنوات الضعف للإمبراطورية العثمانية، وكيف تكالبت الدول الأوربية لتنفيذ فكرة إقامة وطن قومي لليهود واستمرت في ارتكاب المذابح بحقهم لدفعهم للرحيل أيضا، وكيف مارست القنصليات الأجنبية دورها في السيطرة على بقاع واسعة من أرض فلسطين، ولمن تنازلت عنها.. وكان ذلك كله تمهيدًا مبكرًا لوعد بلفور عام 2017، الذي جاء ليؤكد ماجرى لا ليأتي بجديد.

 ذلك تاريخ يعرفه أي شخص إذا أراد، ومن ثم لا أقف عند من يؤيدون إسرائيل في جرائمها في بلادنا، وإن كنت أقف عند من يؤيدونها في الخارج، وأكتبُ عنه ناقدًا مستاءً لأن السياسة الحمقاء غلبت ما أنجزته الدول الأوربية وأميركا في الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ هم يتصورون أن شعوبهم لن تقف ضدهم لأن ما يفعلونه موجَّه كما يدعون إلى الأعداء في الخارج، لكنا نرى المظاهرات والاحتجاجات تملأ بلادهم، وتطالب بمحاكمتهم هم أنفسهم أحيانًا.

الواقع في فلسطين والهجمات على غزة والإعلام

هذه أول مرة أتحدث فيها عن مؤيدي الصهيونية بيننا، وأتساءل: كيف يفعلون ذلك وهم يرون أمامهم صور المذابح التي لا تنتهي بحق شعب فلسطين؟ من أين يأتي هؤلاء بهذه القدرة على التغافل والتعامي؟ لو أن المعركة دامت ليوم أو يومين لكان النقاش ممكنًا، لكنها مستمرة منذ أكثر من سبعين يومًا إلى الآن، فشلت فيها إسرائيل في الوصول إلى مكامن جنود حماس وقادتها.. ألا يرى هؤلاء أن هذه خيبة إسرائيل الكبرى؟ تأتي الأخبار موثَّقة بالصور بأن عشرات الآلاف من المحتلين –لا المستوطنين من فضلك، كما أحب أن أذكركم دائمًا– يتركون إسرائيل إلى أوربا، لقد تجاوزت أعدادهم الأربعمائة ألف، وربما وصلوا إلى خمسمائة ألف وأنا أكتب هذا المقال، أي نصف مليون يبحثون عن ملاذ آخر، أيمكن أن يخطئ كل هؤلاء أم إنهم وجدوا أنه لاجدوى من بقائهم في بلد لا يستسلم أهله رغم المذابح، بل ترتفع راية الشهادة والاستشهاد تريح القلوب والعقول؟ وهذا أمر لم يفتح لهم فكرهم ولا ديانتهم طريقا إلى فهم معناه، فهم في التاريخ قتلة ليس للناس العاديين فقط، بل للأنبياء.

هؤلاء الذين يطلون علينا بتأييد الصهيونية، كيف لا يرون حقيقة أخرى شديدة الأهمية وهي استشهاد تسعين صحفيًّا تحت القصف الصهيوني، آخرهم مصور قناة الجزيرة سامر أبو دقة؟ تسعون صحفيا في سبعين يومًا.. أهي صدفة أم إرادة صهيونية بشعة لقطع الطريق على نقل الحقائق؟ الطائرات المسيَّرة التي تقتل الصحفيين فيها كاميرات، وهم يعرفون من يقصدون! ألا ينتمي الصحفيون الذين قتلهم الصهاينة إلى مهنة الصحافة أو الكتابة التي ينتمي مؤيدو إسرائيل إليها؟ ألا يقومون بعمل هو من أجلّ وأعظم أعمال الصحافة في الحروب؟!. أنا أسأل هؤلاء المؤيدين للصهاينة: هل هذه الصور للصحفيين وجثثهم صور لأشباح؟ أعرف أن الرؤية مؤلمة، وهناك من يجد الراحة في البعد عنها، لكن حين يكون عملك هو أن تكون بين الأحداث فكيف لا ترى؟! ما يحدث في غزة لا يحتاج أن أقول إنه ليس قضية فكرية يمكن الخلاف عليها، إنما هو قضية احتلال تقليدي قديم الفكر والسلوك، لا يرى غير الحرب طريقًا لكسب أرض جديدة، ويعطي حربه معنىً دينيًّا يرفضه من حماس. في المسألة الوطنية، الدين عند الصهاينة طريق الاحتلال، ففلسطين أرض الميعاد؛ والدين عند حماس -في المسألة الوطنية أيضًا- هو استشهاد من أجل الأرض، لا غزو ولا احتلال لآخرين.. هذا ما لا يدركه الصهاينة الذين يتصورون أن استمرار المذابح للفلسطينين سيثير رعبهم ويأسهم، ولا يدركون أن طريق الجنة ستُفتح لهم بالاستشهاد، وهم سيستمرون في المقاومة.. فارق كبير.

التحديات الراهنة، والتفاعل مع مؤيدي الصهاينة

 لقد عشنا نختلف على أحداث كبرى في التاريخ لأننا لم نرها، وعرفناها من الكتب، أو مذكرات من عاشوها؛ واختلافنا يأتي من العقل، فبالعقل نعرف أنه ليس كل من كتب أو أرَّخ لأحداث الماضي كان محايدًا أو موضوعيًّا، إلا في حالات قليلة، فما أكثر المؤرخين الذين لم يذكروا الحكَّام بكلمة سلبية، أو اعتبروا التاريخ هو ما فعله ويفعله الحكاَّم! لكن هناك دائمًا تاريخًا آخر هو تاريخ الشعوب.. والأمثلة البسيطة على هذا النوع في مصر كتب مثل “أيام لها تاريخ” لأحمد بهاء الدين، أو “مصر من تاني” لمحمود السعدني، أو “حكايات من دفتر الوطن” لصلاح عيسى، وطبعا كتب كثيرة لآخرين مثل الدكاترة عماد أبو غازي ومحمد أبو الغار وأحمد زكريا الشِّلق وغيرهم.

ذلك شيء من التاريخ.. لكن هل ما يحدث في غزة تاريخ بينما نراه بأعيننا كل يوم؟ هل يمكن الاختلاف حوله وهو يملأ الدنيا بالصور؟! سأظل مع أهل غزة وفلسطين، الذين صارت قضيتهم مع عمري شكلا من الإيمان، أكثر مما هي محاكمات من العقل والفكر يمكن الاختلاف حولها، ولم يكن السبب تحيزًا عروبيًّا أو قوميًّا بقدر ما هو معرفة بحقيقة القضية التي لا ينساها التاريخ! والحمد لله، لست وحدي في ذلك، بل يمكن أن تقول إن آلاف المثقفين في عالمنا العربي معي.. وفي النهاية كلٌّ يختار مكانه في التاريخ القادم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...