الطواف.. شعيرة استعراض القوة وإثبات العزّة

بواسطة | يونيو 5, 2024

بواسطة | يونيو 5, 2024

الطواف.. شعيرة استعراض القوة وإثبات العزّة

شدّ الحجيج رحالهم إلى البيت العتيق من كل فجّ عميق، وشدّ المسلمون رحال أرواحهم معهم يتابعون تفاصيل الرحلة عبر الشاشات، وأفئدتهم تهوي إلى الحرم والمطاف والمسعى والموقف في عرفات وكل تفاصيل المناسك، وإلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.

والحجّ فيه معاني غزيرة، وله مقاصد جمّة؛ منها استعراض قوة المسلم، وما أحوج المسلمين إلى استحضار هذا المعنى لا سيما في زمن الضعف، ومنها إظهار عزّة المؤمن، وكم هو ضروري توليد هذا المقصد لا سيما في أيام الهوان التي يذوق المسمون مرارتها.

الاضطباع والرَّمَل استعراض نبويّ للقوة

بمجرد أن يصل الحجيج إلى المسجد الحرام، يباشرون الطواف مفتتحين ذلك بالاضطباع والرَّمَل.

والاضطباع هو: أن يجعل الحاجّ وسط ردائه من تحت إبطه الأيمن، ويُغطي به عاتقه الأيسر، ويكون المنكب الأيمن مكشوفًا. قال الإمام الشافعي في “الأمّ”: “الاضطباع أن يشتمل بردائه على منكبه الأيسر، ومن تحت منكبه الأيمن، حتى يكون منكبه الأيمن بارزًا”.

أمّا الرّمَل في الطواف فهو: “الإسراع في المشي مع تقارب الخطى من غير وثْب ولا عَدْو، ويهزّ الكتفين في مشيه، كالمبارز الذي يتبختر بين الصفين”.

وإنَّ أصل تشريع الاضطباع والرّمل كان في عمرة القضاء لأجل إظهار قوة المسلمين وإعلان عزّتهم، وهذا من المقاصد التي أمر بها الشارع ودعا إليها في المحافل كلها. فقد أخرج البخاريّ ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمّى يثرب، قال المشركون: إنَّه يقدم عليكم غدًا قومٌ وهنتهم الحمّى ولقوا منها شِدَّة، فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا، قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم”.

وقد ذكر ابن كثير في سيرته واصفًا المشهد الذي جرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “صَفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: “رحم الله امرءًا أراهم اليومَ من نفسه قوّة”.

وكذلك أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليُري المشركين قوته”. قال الترمذي: حديث حسن صحيح

من الجليّ تمامًا أن الهيئة التي يتمّ فيها الاضطباع والرّمل هي هيئة إبراز عضلات ومشهد استعراض قوّة وإعلان عزة، حتى إنّ القسطلاني عندما تحدّث عن مفهوم الاضطباع في “إرشاد الساري شرح صحيح البخاري” قال: “أي: على هيئة أرباب الشجاعة، إظهارًا للجلادة في ميدان العبادة”؛ وإلى هذا المعنى أشار ابن نجيم الحنفي في كتابه “البحر الرائق شرح كنز الدقائق”، وهو يتحدّث عن الرَّمَل، فقال: “والرَّمَل كما في الهداية؛ أن يهزّ في مشيته الكتفين، كالمبارز يتبختر بين الصّفين”.

من حدث آنيّ إلى تشريع أبديّ

لقد كان الاضطباع والرّمَل حدثًا آنيًّا له سبب معيّن وهو إظهار القوة واستعراضها أمام المشركين، الذين تجمّعوا ليروا المسلمين الذين أوهنتهم الحمّى ودبّ في أوصالهم الضعف بعد مغادرتهم مكة المكرمة؛ ومن الطبيعي أن ينتهي هذا المشهد بانتهاء سببه وتحقُّق غايته، غير أن اللافت أنّه أصبح تشريعًا أبديًّا يفعله المسلمون على مرّ الزمان، لا ينقطعون عنه أبدًا.

ولقد دار معنى انتهاء سبب الاضطباع والرّمَل في خلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت عمر يقول: “فيمَ الرَّمَلان الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطَّأ الله الإسلام ــ أي أثبته وأحكمه ــ ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئًا كنّا نفعله على عهد رسول الله”.

قال ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري شرح صحيح البخاري” معلّقًا على هذا: “إن عمر كان همَّ بترك الرمل في الطواف، لأنه عرف سببه، وقد انقضى، فهمّ أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى الاتّباع أولى من طريق المعنى. وأيضًا إنّ فاعل ذلك إذا فعله تذكّر السبب الباعث على ذلك، فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله”. وقال ابن تيمية: “إنّ العبادة قد تُشرع أوّلًا لسبب ثم يزول ذلك، ويجعلها الله سبحانه عبادة وقربة، كما قد رُوي في: الرَّمل والاضطباع”.

فأصبح الاضطباع والرَّمَل تشريعًا أبديًّا لاستحضار هذا المعنى، وهو استعراض القوة وإظهار العزّة.. وإلى هذا أشار الرملي في “نهاية المحتاج” إذ يقول: “والحكمة في استحباب الرَّمل مع زوال المعنى الذي شرع لأجله؛ أن فاعله يستحضر به سبب ذلك، وهو ظهور أمرهم؛ فيتذكر نعمة الله تعالى على إعزاز الإسلام وأهله”.

فالاضطباع والرمل تشريع باقٍ ليتذكر المسلم الحادثة، فيستشعر نعمة الله تعالى على المسلمين فيما مضى بقوتهم وتمكينهم، ولكن الذكرى وحدها لا تنفع إن لم تحمل معها تحفيز المسلم على صناعة قوّته وإظهارها، وعدم الاستسلام للوهن العام الذي يعيشه المسلمون.

إنّ ما يفعله ملايين الحجيج والمعتمرين من الاضطباع والرمل، لا سيما مع وجود الإعلام الذي ينقل صورتهم إلى أنحاء المعمورة، هو تدريب عملي على ضرورة القوة؛ إعدادها وصناعتها واستعراضها وإعلانها في هذا العالم الموحش، الذي لا يفهم أصلًا إلا لغة القوة لإثبات الذات والوجود.

كم هو عظيم أن يسمع كل حاج فور دخوله المسجد الحرام واستقباله الكعبة المشرفة صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردّد في أذنه وفي أرجاء المكان: “رحمَ الله امرءًا أراهم اليومَ من نفسه قوّة”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...