العربية في أفريقيا: رؤية لغوية- أبجدية عبر العصور

بواسطة | مايو 12, 2024

بواسطة | مايو 12, 2024

العربية في أفريقيا: رؤية لغوية- أبجدية عبر العصور

في نهار 17 من شهر أبريل المنصرم، قرر الرئيس السنغالي الجديد، بشيرو جوماي فاي، تأسيس مديرية الشؤون الدينية ودمج خريجي التعليم العربي، كقسم أساسي تحت لواء رئاسة الجمهورية.

جاءت الخطوة لمعالجة المشكلات التي يعاني منها خريجو الجامعات العربية والمنح الخارجية في البلدان العربية، خاصة أن السنغال قد شهدت بعض التقدم في الاعتراف بشهاداتهم – بفضل ضغط نقابات طلابية- بخلاف الدول الأفريقية الأخرى، سواء الناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية، التي ما تزال لا تعترف بخريجي الجامعات التي تدرس بالعربية، نظرًا لعدم تلاؤم العربية مع سوق العمل المحلي التي لا تزال تستخدم لغة المستعمر.

هذا الإعلان السنغالي هو الذي أُسيء فهمه من قبل العديدين في العالمين العربي والإسلامي، حيث روّجوا خطأً أن السنغال قد استبدلت العربية بالفرنسية كلغة رسمية، وهو خطأ وقع فيه حتى مجمع اللغة العربية، قبل أن يدرك عدم صحة الخبر. لكن الأسئلة التي تظل مطروحة، لماذا يتكرر هذا الخطأ، وهل يُمكن عمليًا تحقيق استبدال لغوي كهذا؟ وما علاقة اللغة العربية بأفريقيا؟ هذه الأسئلة تحاول المقالة استقصاء إجابات لها.

في السياق الأفريقي، غالبًا ما يتم الخلط بين الأبعاد الدينية والثقافية في الدول الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة، حيث ينظر البعض إلى العربية، كونها لغة القرآن، على أنها يجب أن تكون الرسمية، متجاوزين بذلك التحديات العملية إلى آمال غير مستساغة. هذا الطموح على الرغم من جاذبيته يتجاهل ضرورة أن يسبق ذلك مراحل من التحضير والإعداد لعقود من الزمن لتحل العربية محل اللغات الاستعمارية والمحلية في الإعلام والمناهج والتعليم والإدارات الرسمية، وهو أمر يبدو غير واقعي في الظروف الحالية.

راهنًا، في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي يبلغ عددها 48 دولة، هناك 23 دولة تتحدث الإنجليزية، و21 دولة تتحث بالفرنسية، بينما البرتغالية تسود في ست دول. بالإضافة إلى ذلك، تُعد السواحلية في أربع دول لغة رسمية تزاحم الإنجليزية. في المقابل، هناك فقط ثلاث دول تعتمد لغاتها الأفريقية كلغات رسمية وهي: الأمهرية في إثيوبيا، والصومالية في الصومال، والتغرينية في إريتريا، فيما تطغى الإنجليزية على هذه اللغات في الأوساط المثقفة.

وبالرغم من أن دولًا، مثل جزر القمر وجيبوتي وتشاد وجنوب السودان، تعطي مساحة للغة العربية بجانب اللغات الرسمية الأخرى، فإن تأثيرها يتناقص مع الزمن بحكم انزواء النخبة الفكرية والسياسية عنها. وترتيبًا على ما سبق، يتعين تحليل وضع العربية في الدول الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة بعناية، للوقوف على تاريخ العلاقات بينها وبين اللغات الأفريقية، لفهم السياق الكامل والتحديات التي يمكن أن تواجه فكرة جعلها رسمية.

علاقة اللغة العربية بأفريقيا

في القرن التاسع عشر، وضع المستعمرون الأوروبيون والبعثات التبشيرية عبئًا ثقيلًا على النسيج الثقافي واللغوي لأفريقيا، ما أدى إلى تحولٍ جذري في الأبجدية المستخدمة عبر القارة؛ حيث تمت إعادة كتابة اللغات المحلية، التي كانت تُدون لسبعة قرونٍ بالحروف العربية، إلى الأبجدية الرومانية تحت ضغط إصلاحات توحيد اللغة، وتأسيس المدارس الاستعمارية العامة. كانت الحجج لهذه السياسات هي “تحضير” القارة و”جعلها مقروءة” للأوروبيين، وتحويل وجهة أفريقيا “من الشرق إلى الغرب”.

تضمّن مشروع “جعل أفريقيا أكثر قابلية للقراءة بالنسبة للأوروبيين” رَوْمَنَة اللغات على نطاق واسع، مثل السواحيلية والهوسا والولوف، وأُعيدت صياغة اللغات الأصلية في القارة بأسرها بالحروف الرومانية بدلاً من العربية، بل حاول المستعمرون حتى فرض الكتابة الرومانية على اللغة العربية في السودان – بحسب المؤرخة كاتلين بولتون- لكنها باءت بالفشل. الغرض من هذا التحول لم يكن فقط فنيًّا لغويًّا، بل كان جزءًا من مشروع استعماري أكبر، يهدف إلى تحويل الثقافة والمعرفة الأفريقية لتناسب الأذواق والاحتياجات الأوروبية.

استنادًا إلى المواد الأرشيفية باللغات الإنجليزية والعربية والسواحيلية من الأرشيف الوطني في زنجبار التنزانية مثلاً، يكشف البحث أن “الرَوْمَنَة”، التي تعني تحول الكتابة من الخط العربي إلى الخط الروماني-اللاتيني، الذي يشكل الأبجدية للعديد من اللغات الأوروبية الحديثة – بما في ذلك الإنجليزية- لم تكن مجرد تقنية لغوية، بل كانت تحمل دلالات عميقة تتعلق بالسيطرة وإعادة تشكيل السلطة على القارة.

فالرومنة الأبجدية للغات الأفريقية كانت تعبيرًا عن سلطة النظام الاستعماري الأوروبي، الذي سعى ليس فقط للسيطرة على الأرض، بل وعلى المعرفة والثقافة. في زنجبار ودكار وتمبكتو، التي كانت تحت حكم السلاطين المسلمين، جاء هذا التحول ليعلن نهاية النفوذ الثقافي العربي وبداية الهيمنة الأوروبية على النظم المعرفية الأفريقية. بحسب المفكر الكيني علي المزروعي كان المسؤولون الاستعماريون حينها يصفون التعليم بالعربية ومدارس القرآن بأنه “حديث الببغاء” و”مخدر للعقل”، بينما أسسوا مدارسهم الغربية، فركزوا على ترويجها بـ “المعرفة المفيدة”، التي كانت غالبًا تعني المعرفة التي تضمن مناصب حكومية.

وراهنًا، في ظل الإرث الاستعماري المعقد، تبقى النخب الأفريقية التي تم تغريبها عمدًا محمَّلة بتاريخ يمتد من الاستعمار إلى العهود المعروفة بالاستقلال حتى يومنا هذا. في دول كساحل العاج وتوجو، وبمستوى أقل في النيجر والسنغال، تَنظر النخبة إلى من تعلم واكتسب ثقافته باللغة العربية باعتباره الـ”متدني ثقافيًّا”، حيث لا يُعترف بشهاداته ولا مؤهلاته العلمية، فغالبًا ما يقتصر دور هذه الفئة على الإمامة في المساجد أو تدريس الإسلام واللغة العربية في المدارس الدينية والمؤسسات الأهلية.

وحين تحاول نقابات خريجي الجامعات العربية الضغط، للاعتراف بشهاداتهم كمثقفين متساوين في المستوى مع نظرائهم الناطقين بالفرنسية أو الإنجليزية، غالبًا ما يُتَّهمون بمحاولة أسلمة الدُول. في السنغال – مثلًا- عندما أنشأ الرئيس جوماي فاي مديرية للدراسين بالعربية، واجه انتقادات حادة من شخصيات بارزة مثل الكاتب والمفكر “تياروي أزور” والمفتش التعليمي المتقاعد عبد الله سال؛ وفي رسالة مفتوحة، أعربا عن قلقهما بشأن إنشاء مديرية مخصصة للشؤون الدينية وإدماج فئة محددة من الخريجين، معتبرين أن هذا يخل بمبدأ المساواة، ويعزز التفضيل لديانة معينة وتخصص تعليمي محدد، وهو ما يناقض مبادئ العلمانية التي “تفخر بها الأمة السنغالية”.

هذه الديناميكية تستحضر محاولات مماثلة في دول أخرى، مثل جمهورية غامبيا، حيث أعلن الرئيس السابق يحيى جامع في عام 2014 أن العربية ستكون اللغة الرسمية للدولة، في خطوة لإعلان الجمهورية الإسلامية. هذا الإعلان كان بمثابة تحدٍّ كبير للواقع، فلا الرئيس ولا طاقمه كانوا يتقنون اللغة العربية، ما جعل القرار غير عملي وأُلغي في نهاية المطاف بعد تغيير النظام السياسي وبقاء اللغة الإنجليزية كلغة رسمية في عهد خليفته أدما بارو.

في ختام المقالة، أريد أن أستحضر البصيرة الإلهية المتمثلة في قوله تعالى: “واختلاف ألسنتكم”.. أرى أنه ليس من الحكمة – حتى تحت غطاء الدين- أن نطمس التنوع اللغوي الذي منحنا الله إياه؛ والإسلام بغناه وتنوعه يعانق الأمم واللغات المختلفة، وهو ما يُثري تجربتنا الإسلامية.

يُعلق الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير”، قائلاً: “اختلاف لغات البشر آية عظيمة؛ فهم مع اتحادهم في النوع، كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوَّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير، وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات”. ويقول الزمخشري: “خالف عزّ وجل بين هذه الأشياء… حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله.. ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطّلتْ مصالح كثيرة”.

يعني في تعبير صريح أن الاختلاف اللغوي ليس عقبة حتى يُسعى لإزالتها، بل هو تعبير عن الثراء الثقافي والتنوع الإنساني. وإلى ذلك أشار أبو عثمان الجاحظ بقوله: “إنّ المثالب والكمالات موزعة بين الأمم”، مشيرًا إلى أن كل ثقافة ولغة لها خصائصها الفريدة التي تسهم في تشكيل النسيج الإنساني الإسلامي المتنوع.

وترتيبًا على جميع ما سبق، فإن الدعوة إلى توحيد اللغات بين المسلمين أو إلقاء تلك الرغبة على شعوب مثل الأتراك أو الباكستانيين أو الإندونيسيين أو الهوسا في النيجر، أو الولوفية في السنغال لترك لغاتهم لصالح العربية نداءٌ غير واعٍ، ولا تخالف فقط المنطق العملي والعلمي، بل تتعارض مع الآيات الإلهية التي تقدر التنوع والتفرد.

وفقًا لهذه المعطيات، يكون من الأجدر أن تعود أفريقيا المسلمة إلى استخدام لغاتها المحلية، سواءً مع الأحرف العربية كما في المخطوطات، أو أخرى تبتكرها، كما كانت تفعل قرونًا قبل، ما يسمح بإعادة التعارف والتفاهم الذي كان مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية بتلك التنوعات اللغوية.

مخطوطات وصلتني من مصدرٍ خاص من جمهورية نيجيريا الفدرالية، تعود لفترات ما قبل الاستعمار حين كانت لغة الهوسا تكتب بالحروف العربية

3 التعليقات

  1. نورين احمد

    صحيح تعتبر العربية في تشاد لغة رسمية على جانب الفرنسية الا ان الهيمنة الفكرية التي غرسها المسنعمر وتأثر صناع القرار بها جعل خريجي المدارس يعانون بشكل كبير

    الرد
  2. محمد أول حميد

    شكرا أستاذ إدريس، مقال ثري وحصيف.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...