العرب والهزيمة الثقافية

بواسطة | أغسطس 9, 2023

بواسطة | أغسطس 9, 2023

العرب والهزيمة الثقافية

ربما لم تترك أمة من الأمم تراثا فكريا وثقافيا ودينيا وفلسفيا وأدبيا أكثر غزارة مما تركته أمة العرب، وخاصة على مدى القرون العشرة الأولى بعد الهجرة، فقد كتب العرب بعد الإسلام وصنفوا وألفوا في كل صنوف المعرفة الإنسانية، تراثا لا يدانيه تراث آخر؛ ومن يعُدْ لسفر ابن النديم النفيس “الفهرست” يدرك جليّا أي نقلة نوعية تلك التي أحدثها الإسلام في أمة العرب، فأخذها من براثين البداوة إلى جنبات الحضارة وقلب التاريخ.
كان العرب أمة بدوية شفهية، لا تكتب شيئا، بل ترتجل وتحفظ ما ترتجل، لأنها أمة شعر وبيان؛ لكن مع قدوم الإسلام ونزول القرآن انطلق العرب يؤلفون ويكتبون ويصنفون في كل الفنون، من الأدب إلى الطب والفلك، ومن الموسيقى إلى الكيمياء والرياضيات، ومن التاريخ والأنساب إلى الفقه والحديث واللغة وغيرها من المعارف والفنون، واقتحموا كل ميدان فكتبوا فيه وأتقنوا أيَّما إتقان. ولم يأت القرن الهجري السابع، إلا وقد صار لأمة العرب مكتبة لم يتسنَّ لأمة أخرى مثلها، حوت تصانيف المعارف والعلوم، نثرا وشعرا ونظما، ولغلبة النظم والشعر على العرب صاغوا جل الفنون والعلوم نظما في أبيات شعرية لتسهيل حفظها، وهذا ما عملوه في بسطهم لقواعد اللغة والفقه والبيان والنحو والصرف والفرائض، بل إنهم قبل هذا كله اكتشفوا الضوابط التي تحكم موسيقا شعرهم، فصاغوها علما مستقلا بذاته، هو علم العروض الخليلي.
هذا التدفق المعرفي خلال ثلاثة قرون من الزمن، نقل العرب نقلة نوعية على كل المستويات، دفعت إلى تعميم الثقافة العربية بين مختلف الأمم والشعوب كالفرس والترك والأحباش والهنود وكل شعوب الشرق القديم، وأوصلت اللغة العربية إلى مرتبة السيادة، لتصبح لغة العلوم والحضارة والفقه والفلسفة والمدنية والفن.
وهكذا وجد العرب أنفسهم في مقدمة شعوب الأرض، وصارت لغتهم رائدة بين سائر اللغات، لا لشيء إلا لأنها لغة القرآن الذي رفعها مكانا عليّا، فدانت ولانت لهذه اللغة كل الشعوب باعتبارها لغة القرآن أولا، ثم أنها بعد ذلك صارت لغة الدين والعمل، ولغة الثقافة والفن والأدب. ولهذا رأينا بروز أعاجم في مقدمة العلماء والمصنفين، كابن جني وسيبويه في اللغة العربية، وكالبخاري وغيره من أئمة الحديث، وجلهم من أصول أعجمية ولكن لسانهم عربي، وإنما العربية اللسان كما في الأثر.
لقد دفع هذا التحول الكبير في تاريخ العرب كثيرا من الدارسين المنصفين للقول إن أثر العرب على الحضارة الإنسانية كان عظيما وجوهريا؛ وهذه المكانة سجلتها المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة في كتابها الشهير “شمس العرب تسطع على الغرب”، كما سجلها المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير “حضارة العرب”، وكذلك ويل ديورانت في “قصة الحضارة”، وأرنولد توينبي في جل كتاباته وتنبؤاته بمستقبل العرب، وفي وقوفه إلى جانب قضاياهم العادلة.
نترك ذلك إلى حين لنعود ونتأمل في واقع العرب اليوم، فنجد ملامح الأزمة الثقافية، أو الهزيمة الثقافية بالأساس، كبيرة جدا؛ ومؤشراتها في كل اتجاه وحقل، بدءا من تنحية وتراجع العربية كلغة علم ودراسة في معظم الأقسام العلمية في الجامعات العربية، إلى فتح آلاف المدارس الأهلية في عموم الوطن العربي أقساما لتدريس الطلاب باللغة الإنجليزية منذ الصغر، وهذا ما يهدد الهوية اللغوية والثقافية والفكرية أيضا لهؤلاء الأطفال، لأن تدريس الإنجليزية يأتي على حساب العربية لغتهم الأم، وليس إلى جانبها.
ليس هذا فحسب، بل إن كثيرين من المبتعثين العرب، الذي يذهبون للغرب للدراسة والتحصيل العلمي لا يعودون إلى بلدانهم، وكثير من هؤلاء ثقافتهم العربية ضعيفة جدا بحكم ضعف اللغة والثقافة العربية في المناهج التي درسوها في الوطن العربي، ما يجعل هذا النوع من الأشخاص بلا هوية واضحة المعالم ويذوبون سريعا في مجتمعاتهم الجديدة.
ومن تجليات أزمتنا الثقافية أيضا، حجم الترجمة من وإلى لغتنا العربية، كمؤشر على مدى التخلف الثقافي الذي نعيشه، فبحسب إحدى إحصائيات اتحاد المترجمين العرب، فإن ما تمت ترجمته للغة العربية في كل العالم العربي خلال السنوات العشر الواقعة بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٩م لم يتجاوز ٣٠٠٠ كتاب، وستكون الكارثة إذا ما علمنا أن ما تترجمه إسبانيا على سبيل المثال خلال العام الواحد يصل لأكثر من عشرة آلاف كتاب.
عدا عن ذلك، نرى مظاهر الهزيمة الثقافية العربية متجلية في جانب آخر، فلغة الإعلام اليوم لم تعد تلتزم العربية الفصحى، وطغت اللهجات المحلية المحكية في معظم الخطاب الإعلامي والثقافي العربي، وتراجع دور المؤسسات الثقافية العربية، وتراجعت فعالياتها وإصداراتها الثقافية، بعد أن كانت في العقود الماضية تمارس دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية العربية لعديد من الشعوب العربية التي تمت فرنستها، كتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا.
أما على مستوى الدراما، فدورها في تكريس الأزمة الثقافية العربية الراهنة واضح، وتأثيراتها السلبية كبيرة جدا، بل إنها تكاد تمثل الصورة الأوضح للهزيمة الثقافية العربية، بحكم الفضاءات المفتوحة لهذه الدراما المنتشرة اليوم بلا قيود ولا حواجز، ولا حسيب ولا رقيب لمستوى الأداء فيها ليتم التفريق بين الإبداع والإسفاف، وكلها دراما محملة ومثقلة بأزمات مجتمعاتها المحلية، وفي مقدمتها أزماتها الثقافية، وفي القلب منها الأزمة الأخلاقية كانعكاس للأزمة الثقافية العربية.
إن الهزيمة الثقافية تتجلى اليوم بصورة أو بأخرى أيضا، بالبون الشاسع بين أقطار الأمة العربية، الذي يعكسه حجم الفجوات الموجودة بين أبناء الأمة الواحدة، وحالة الانقسامات التي تضرب يمنة ويسرة، وفي مقدمتها الانقسامات الطائفية التي تمثل اليوم أبرز مظاهر الأزمة الثقافية العربية، هذه الأزمة التي ينزف العربي اليوم من جرائها  دما وخرابا وتخلفا على كل المستويات. وكل هذا التصاعد الكبير للأُوَر الطائفي، هو نتاج طبيعي لعمق الأزمة الثقافية العربية بدرجة رئيسية، وقد تمظهرت هذه الأزمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفي جوانب أخرى، وهو ما قاد ويقود العالم العربي اليوم للعودة إلى ما قبل ظهور فكرة الدولة الوطنية العربية ذاتها، هذه الفكرة التي حاول أصحابها أن يملؤوا بها فراغ ما بعد الاستعمار، واجتهدوا لكنهم للأسف لم يتمكنوا من صياغة سردية ثقافية عربية موحدة، تتجاوز حالة الانقسامات الطائفية والقبائلية والعشائرية العربية، وتتجاوز إرث المستعمر.
إن النخبة العربية الحاكمة اليوم، مسؤولة بدرجة رئيسة عن جُلّ حالة التردي الثقافي العربي، مسؤولة عن هذه الانقسامات، مسؤولة عن تردي صورة العربي في العالم، حتى صار يُرى على أنه ذلك اللاجئ المشرد، أو ذلك الثري الأحمق الذي لا يجد مكانا لفلوسه وأمواله الطائلة إلا في بارات الغرب وملاهيه ومزاداته.
إن أزمتنا الثقافية اليوم، علاجها في صميم تراثنا، ذلك التراث العربي الذي نحن في أمس الحاجة للعودة إليه واستجلاء أفضل ما فيه من نفائس، ومن صور الحضارة والرقي والقيم العربية الأصيلة، فلا يزال تراثنا بكرا ينتظر تناوله والاعتناء به، واستجلاءه مادة للتربية وتنشئة هذه الأجيال المسلوبة هويتها، والتائهة في وسائل التواصل ومنصاتها المختلفة.
إننا كعرب اليوم، بعد حصاد هذه العشرية، بحاجة ماسة لشيء من التفكير والتأمل في ما آلت إليه أوطاننا، والبحث عن المخرج من هذا المصير وهذه المتاهة، التي لن تقتصر على الدول التي نالتها ويلات الحروب والاقتتال الطائفي والأهلي، بل إن الجميع مرشحون للحاق بإخوانهم السابقين، ما لم يدرك الأخوة العرب ممن يمتلكون الإمكانات الكبيرة اليوم وقد سلموا حتى اللحظة، أن الدور آتٍ عليهم ما لم يعوا جيدا أن العرب أمة واحدة ومصيرها واحد من المحيط إلى الخليج.
إننا بحاجة ماسة إلى فهم ووعي هذه الحقيقة التاريخية، أن العربي على امتداد الجغرافيا العربية يجب أن يسهم في الخروج من هذه المتاهة بدرجة من الوعي ومن الأمل والعمل أيضا. وإني أقولها هنا، إن مسؤولية الأخوة اليوم في منطقة الخليج العربي مضاعفة وكبيرة، وإنه لا سبيل لإنقاذ مجتمعاتهم إلا من خلال المساهمة الحقيقية في انتشال بقية المجمعات العربية من حالة التيه والفوضى والخراب التي تضرب هذه المجتمعات، وإن المدخل الثقافي هو أهم مداخل إصلاح منظومة الأفكار العربية المغلوطة اليوم.
إن صراعات السياسية ونكباتها، ليست سوى إحدى تمظهرات أزمتنا الثقافية وأبرز تجلياتها، ولا مخرج من هذا المأزق إلا بإعادة الاعتبار لثقافتنا وقيمنا العربية، وإعادة صياغتها بما يتناسب وفضاءات المعرفة وثورة التكنولوجيا المفتوحة اليوم، وإن الدراما والسينما والإعلام والمنصات الرقمية هي أهم أدواتها، وقبل كل هذا مراكز الدراسات والأبحاث، وقبلها مناهج الدرس التعليمي على امتداد خارطة الوطن العربي الكبير.. تلك هي المداخل الحقيقة للخروج من حالة الاستلاب والهزيمة الثقافية العربية الراهنة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...