الفكرة بين ناب النفس وكف التسخير

بواسطة | أبريل 25, 2023

بواسطة | أبريل 25, 2023

الفكرة بين ناب النفس وكف التسخير

للنفس جند يتألبهم الذود عن حرم لا يستباح، ولها خدم يتعاهدون حظها بالغذاء والسقاية. تراهم يحوفونها، يوغلون في طياتها، يمنونها، يستثيرونها، يخلعون عليها أستار الإجلال ويشدون أطرافها، ثم لا يكفون عن تجديد البيعة لها في الغدو والآصال، ولا ينتهون من غزل ضروب الديباجات ونسج صنوف التغريرات، مطالع كل فجر، وهوازع كل ليل.
ولئن تفاوت الناس في قوة جندهم ونشاط خدمهم، فإنه لا يسع أحدهم الخروج من هذه المعادلة، بأي ثمن. ليس بمقدور أحدهم أن يشب عن هذا الطوق، ولا بمكنته انتزاع ناموس النفس من جب كيانه وغور ذاته.
وأولئك الجند والخدم إنما يزاولون مهامهم جبلة، كما لو أنهم يأتمرون من غير آمر.
أولت الرسالات الدينية حيزا كبيرا من خطابها للنفس. وضجت الملاحم الأدبية والشعرية في شتى الحضارات بأحاديث حول النفس وإليها. أما الوعظ في أي ثقافة كانت، إنما ابتنى ويبتني قوامه الفلسفي من فكرة النفس، مستمدا طاقته من فهم نوازعها واستفهام أشياءها واستجلاء ألغازها، وسبرها في حلقة لا تنتهي، ملؤها النقض والبناء.
وحين نشأ علم النفس الحديث، فإن أساطينه الحداثيون قد شيدوا معالجاتهم على الأساس النظري السقراطي وهو الاعتقاد الوثيق بأن فهم العالم الخارجي لا يتقرر إلا عبر فك مغاليق هذه النفس التي تطرد في تعقيدها، فسقراط هو أول الفلاسفة الذين قطعوا مع التيارات السائدة في زمانه، والتي كانت تتجه في محاولاتها لفهم الوجود عبر دراسة الطبيعة، حيث جعل من الإنسان موضوعا لفهم الوجود.

إن اللبيب بانشغاله في مسائل تحصيلية معقدة ليحار في أمر بدهي، كما قد يخفى على الطبيب تسكين علة بسيطة حين يغرق في علاج علل مركبة.

اختلفت المشارب والآراء وتعددت الأساليب والطرق في ذلك الإرث النفسي الواسع، بيد أنها اتفقت أو تقاربت على الأقل في تقييد النفس وتركيعها وتحويط أدوارها وتحجيم آثارها. ولا ريب أنها -بعد هذا المسير المرير والحثو المتعثر- قد أخفقت إخفاقا يملئ مجمل خارطة التاريخ البشري، مع مواضع نجاح نسبية متقطعة.
إن اللبيب بانشغاله في مسائل تحصيلية معقدة ليحار في أمر بدهي، كما قد يخفى على الطبيب تسكين علة بسيطة حين يغرق في علاج علل مركبة. وهذه الحال دالة على أمرين رئيسيين، أولهما: لا مناص للذهن الفاعل من الاستغراق، وثانيهما: الذهن في استغراقه التفصيلي يفقد قدرا معتبرا من مقومات استيعاب دروسه الأولى. لا بد إذن من معاودة، ولا مفر من مكاشفة، ولا سبيل إلا نحو هذا الدأب المجدد، كما يتجدد الدم في العروق.
ليس من مقتضى صاحب هذه المقالة القصيرة أن يأتي بأوابد ما قيل في النفس، أو يرصف مدارسها وتياراتها، أو يستجمع بأس يراعه المتيبس ليضع وصفة علاجية تضم شعث النفس وترمم هدامها، فذلك مما يستنفر عزائم الجبال الشم، ويستدعي دهرا مترام. إنما هي تأملات تبث في هدأة الزمان العجول، غرضها تقرير فكرة وتحرير عبرة.
النفس في ميزان النظر والقياس لا تقتصر على الفرد؛ بل تتجاوز الكيان الفردي للإنسان، فتتجلى فيما هو أوسع وأشمل من ذلك، مثل الأسرة والجماعة والأمة، والدولة كذلك. وليس في هذه الإشارة سبق. ففي ثنايا المدونات الأغريقية ملامح من هذا القبيل، وفي أشعار العرب وآدابهم ما يمس هذا المعنى ولو من بعيد.
تطورت هذه الدلالة بتطور المعارف الفلسفية المختلفة وصولا إلى مفهوم العقل الجمعي لدى دوركايم، وإلى مفهوم سايكولوجيا الجماهير عند غوستاف لوبون، من جهة كونهما يتمحوران حول اشتمال النفس -والعقل في حالة دوركايم- مجمل الظاهرة الاجتماعية، أي: إذا كانت ثمة للإنسان نفس، هي مكون أصيل في تركيبه الطبيعي، فإن للجماعة نفس أيضا. وهذه النفس الجامعة ما هي إلا مجموع النفوس التي تنتمي إليها، فيغلب على صنيعها ما يغلب على نفوس أكثر أفرادها.
كل ما سبق، مندرج في تمهيد المسألة، وقد سئل قارئ يملك مكتبة ضخمة عن الحكمة، قال: هي أسطر معدودات، فقيل ولم كل هذه الكتب؟ فأجاب: من أجل تلك الأسطر القليلة.
أما فتى “ألف ليلة وليلة” الذي مات أبوه فرأى في المنام رجلا يصف له كنزا مستودعا له، ومكانه في مصر، فخرج من بغداد حتى وصل المكان الموصوف فوجد رجلا مبرزا، فاستخبره، وحين علم الرجل بقصته هزأ به وأخبره بمكان الكنز وأن موقعه في بغداد لا مصر، فعاد إلى بلاده ليكتشف في نهاية الطواف أن الكنز مدفون في فناء داره.

الفكرة النفسية، فإن أول ما يجترئ طريقها -بادئ بدئها- استدراك ضمني يتشكل في ذهنك الآن أيها القارئ، مفاده أن مصدر الفكرة هو العقل، فما شأنها وشأن النفس وعلائقها.

ما يرمي المقال إلى تناوله إذن هو بيان الجانب النفسي للأفكار، واستظهار ملامح الفكرة النفسية، أي الفكرة بوصفها مرآة للنفس، وإبانة الفارق بين نسب الفكرة وبين الانتساب إليها، وتوضيح حال الأفكار التي تقع -أكثر الأحيان- فرائس إما للتوظيف أو للتأليه، والتوكيد على أن الفكرة مسخرة، وأن الإنسان بصفته مستخلفا على الأرض وموكلا بعمارتها، فإنه مؤتمن على صون الفكرة من استعبادها أو استعباد نفسه لها، ولاسيما ما يقع من الأفكار في ميدان الرأي.
أما الفكرة النفسية، فإن أول ما يجترئ طريقها -بادئ بدئها- استدراك ضمني يتشكل في ذهنك الآن أيها القارئ، مفاده أن مصدر الفكرة هو العقل، فما شأنها وشأن النفس وعلائقها. لا خلاف على مسألة أشبعها أكابر الخليقة تقريرا وإثباتا، إنما المراد في هذا الشأن إبراز تلك الوشيجة الغؤور، المنسلة المضمرة بين الفكرة وما ينشب فيها من رمايا النفس التي تخرقها خرق الرماح الردينية. فالفكرة الخاضعة لسلطان النفس، تتسم بصفات ظاهرة. ولكن قد يعرض عليها ما يواري سوءتها، فلا يقع في مدرك الناظر أنها مستباحة لهوى نفسي وشبق لا يهدأ.
فمن سماتها أن تكون خاضعة للعامل الأوحد في تفسير الأشياء، وسط عالم يعج بالتركيب، وأن يطغى على نبرتها القطع والجزم والبت والحزم دون روية، وأن يتلبسها الركون إلى قيود اللحظة، وأن تسبق نتائجها مقدماتها. وغيرها مما تصبغ به الأفكار صبغة نفس تتخطفها ضروب الهشاشة. يتحصل في إثر ذلك ضرب من التشغيب الذي يثلم وجه الحقيقة. ومن جملة الدوافع الماثلة وراء انزلاق الفكرة في وهاد نفسية سحيقة، الدافع الرئيس في سياق هذه المقالة وهو غلبة جند النفس، واستبداد خدامها، بما يزين للنفس من حظ متوهم.
أما الأفكار في نسبها وتنسيبها، فهي محدودة الآباء، ولكن يكثر المتقاطرون على تبنيها، حتى يؤول أمرها بين الأبوة والتبني، بين التأصيل والتأويل إلى أن تصبح: هدفا أبديا لـ «التعديل الجيني» الذي لا يشبع من تحويرها كل زمان ومكان، مستهدفا تكييفها بما يتواءم وشروط المرحلة التاريخية أو حتميات الأيدولوجيا أو مقاصد الصالح العام. إذ لكل تعديل جيني يطرأ على الأفكار نواياه ومراميه وآماله.

إن عملية التلقي -في أحيان عديدة- تفضي إلى ولادة جديدة لفكرة هجينة أصل، تخرج من أصلابها -هي الأخرى- أفكار جديدة. إن هذه حقيقة لا غبار عليها، وما أسهل تبينها واستيعابها وهضمها

والحال أن هذه الجدلية النسبية تنقسم إلى قسمين، الأول تقدم ذكره، أما الثاني فيتمثل في الآثار المترتبة على توليد الفكرة وتلقيها. ولا بد من الإشارة هنا، بأن المقام هذا، لا يسلم بانغلاق بوابة الإبداع الفكري على افتراض أن السابقين ما تركوا للاحقين شيئا. وقد شاعت -مثل هذه الفكرة- لدى بعض المستشرقين المرجفين الذين أذاعوا انسداد باب الاجتهاد، وما مقصدهم من هذا القول إلا تثبيط العقل المسلم وكبح طاقاته، بل والأشر منه تصوير المسلم المعاصر بأنه مثل فتى خامل أورث ثروة لا يحسن إدارتها، وما ينبغي له.
بين توليد الفكرة وتلقيها يشيع التباس حاد، للنفس فيه نصيب، وهو عين مسألة الأبوة والتبني، وإيجازه في الآتي: لكل فكرة نسب من حيث إنها وليدة عقل، وفي ولادتها قدر من العلق النفسي من صاحبها يزيد وينقص، ثم يكون في تلقيها منشأ الانتساب، بل إن عملية التلقي -في أحيان عديدة- تفضي إلى ولادة جديدة لفكرة هجينة أصل، تخرج من أصلابها -هي الأخرى- أفكار جديدة. إن هذه حقيقة لا غبار عليها، وما أسهل تبينها واستيعابها وهضمها، لولا إن النزاع والتدافع والفجور في اختطاف الفكرة وتنسيبها والانتساب لها، في ادعاء أبوتها وفي تبنيها، هو ما ينتج آثار الهرج والمرج الفكري، ذي الأصول النفسية المحضة.
مؤدى جميع ما سبق خليط من النواجم، حيث ينجم تأنيس الفكرة أو أنسنتها من أجل زعم أبوتها، كما ينجم تسليعها بغرض تملكها. ولا يقف الأمر عند هذين الحدين. فثم مآل ثالث يكون في استباحة الفكرة دون ميزان يرجح وزنها ومقياس يضع لها قدرها المستحق، فيجري استعبادها ومثاله الأفكار التي تصلح للعصر ولكن تلغى من الاستعمال الرزين لأسباب غير موضوعية، ومآل رابع يتمثل في استعباد النفس لفكرة قضت أجلها ولكن جرى تأليهها هوى وشغفا. وفي هذين المآلين الآنفين الداء جله.
إن الأفكار وبما هي نتاج النشاط الذهني المتفاعل مع موقع الذات في الوجود، وعلاقة الذات بالذات من ناحية، ودورها في الطبيعة وواقع الطبيعة إزاءها من ناحية أخرى، ليحتم التعاطي معها بمنطق التسخير، وبما يستهدى به إلى مقاصد الحق والرشاد. ولا تخفى اللوازم التي يفض بمقتضاها استقطاب الأنفس ويرشد حظها مثل لزوم مراقبة النفس والتجرد من أهوائها. وهذا مرتقى صعب، ومطلب يوشك أن يستحيل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

يوشك الأمم أن تداعى! (1)

يوشك الأمم أن تداعى! (1)

كيف تحدث هذه الفظائع كلها في غزة، دون أن يكون هناك أي تحرك من الأشقاء أهل السلطة في البلاد العربية أو المسلمة؟ أليس الدين واحدا؟ والدم واحدا؟! إلام يستمر هذا النزيف ليقتنع الإخوة الأشقاء أو الألداء، ويهبّوا من أجل هذا  الدم الذي يسيل بلا حساب؟! هذا السؤال...

قراءة المزيد
رمضان أبو جزر.. شاهد على العصر

رمضان أبو جزر.. شاهد على العصر

رمضان أبو جزر طفل فلسطيني، يحمل على كتفيه الصغيرين همَّ أمة بأكملها، يؤمن بأنَّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، فصاحة لسانه وحسن منطوقه يجبرانك على الإنصات له، فحديثه يوازي عمر رجل أربعيني. له من الألقاب فوق ما أحصيه عدّاً؛ فهو الخوارزمي الصغير، وسفير أطفال...

قراءة المزيد
الهجرة النبوية والنزعة إلى الاستقلال

الهجرة النبوية والنزعة إلى الاستقلال

يحلُّ علينا الآن عام هجري جديد، ونحن نعلم يقيناً أن الهجرة النبوية ليست حدثاً عابراً مرت به الأمة وقائدها، إنما كان حدثاً يؤكد لنا ضرورة الاستقلالية قبل بداية أي مشروع فكري نهضوي حضاري، فقد كان لزاما على قائد المسيرة تغيير موطن بداية الانطلاقة لدولة الحضارة، حتى لا...

قراءة المزيد
Loading...