المستشرق الذي كشف أسرار المتصوفة

بواسطة | أبريل 8, 2024

بواسطة | أبريل 8, 2024

المستشرق الذي كشف أسرار المتصوفة

مع عرض مسلسل الحشاشين تذكرت المستشرق لويس ماسينيون، الذي وضع كتابا عنهم وعن شخصية حسن الصباح، لكن ما يعنيني أكثر تجربة ماسينيون مع التصوف والمتصوفة.

لعل المكانة التي حققها لويس ماسينيون بين كبار المستشرقين لا يضارعه فيها أحد، فقد استطاع سبر غور التيارات المتخفية وراء المذاهب الظاهرة للعيان، كما استطاع أن يتحرر من المزاج الشخصي في الحكم على تلك المذاهب أو الشخصيات التي أسستها، كما أن لويس ماسينيون يميل كثيراً إلى الروحانية في تحليلاته.. لكن الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذى ترجم العديد من أبحاث ماسينيون، على الرغم من تأييده لقيمة ماسينيون في الاستشراق فإنه يرى أن هناك من يضارعونه في المكانة، مثل “نيلدكه” و”نلينو” و”جولد تسيهر”، لكنه يراه متميزاً عنهم في نفوذ النظرة وعمق الاستبطان، والقدرة على استنباط التيارات المستورة وراء المذاهب الظاهرة والأفكار السطحية، بل وبرَّأ ماسينيون من دعاوى النـزعة التاريخية (Historicisme)، التي أصابت أبحاث “نيلدكه” و”جولد تسيهر” بالمغالاة في تلمس الأشباه والنظائر إيذاناً بالتأثير .

انشغل ماسينيون طويلاً بمحاولات فهم أسرار الصوفية، والتوصل إلى ما خلف هذا العالم الروحاني، فقضى ردحاً من الزمن يبحث بعمق وراء الحلاج والسهروردي، كما أخذ دوراً متميزاً في تحليل شخصية سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران، والعديد من الإشكاليات التي سوف نتعرض لها، إذ ينبغي بداية أن نتعرف على بواكير النشأة لهذا المستشرق الذي كان له دور حقيقي وهام.

ولد ماسينيون (Louis Massignon) عام 1883 في ضاحية نوجان على نهر المارن، وهي إحدى ضواحي باريس، درس والده الطب ثم اشتغل بفن النحت، واهتم كثيراً بنحت الجبس، وسمى نفسه بيير روش (Pierre Roche)؛ لذا نشأ لويس نشأة فنية فيها تذوق للفن، وقد وجد لدى والده اهتماماً كبيراً بالفن الإسلامي، ما دعا لأن يبدأ ماسينيون أبحاثه حول الآثار الإسلامية .

التحق ماسينيون بـ”ليسيه لي جران” حيث قضى دراسته الثانوية، ثم التحق بالمدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية. في أكتوبر عام 1900 حصل لويس على البكالوريا في الآداب والفلسفة، بعدما حصل على البكالوريا في قسم الرياضيات، وفي العام نفسه سافر في رحلة سريعة إلى الجزائر ثم عاد بعدها إلى باريس ليحصل على ليسانس الآداب، وبعد أن أنهى الخدمة العسكرية سافر إلى المغرب عام 1904، وله عنها بحث حصل به على دبلوم الدراسات العليا في السوربون حيث تعلم على يد المستشرق هارتفج داربنور، ثم اهتم بمتابعة محاضرات لوشاتلييه في الكوليج دي فرانس عن دراسة الإسلام من الناحية الاجتماعية، وتعلم اللغة العربية في المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية.. المدهش حصوله على دبلوم في اللغة العربية الفصحى والعامية أيضاً.

تعرف ماسينيون على جولد تسيهر في الجزائر عام 1905، من خلال المؤتمر الرابع عشر للمستشرقين، في ذلك الوقت فكر ماسينيون في مصر وسحرها، وقيمتها بالنسبة لسعيه الروحي وبحثه عن ذلك العالم المدهش، فجاء إلى القاهرة عام 1906 حيث عين عضواً في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وبدأ اهتمامه بالآثار الإسلامية، لكن لم تظهر أبحاثه عن مصر الإسلامية وآثارها في هذا العام الذي قدم فيه إليها، بل ظهر بحث عن مراكش “لوحة جغرافية للمغرب في السنوات الخمسة عشرة الأولى من القرن السادس عشر، تبعاً لليون الأفريقي”، ثم ظهرت أبحاثه عن مصر بعد ذلك بعامين، ومنها “تعليقه على مدى تقدم أعمال الآثار الشرقية العربية في مصر خارج القاهرة” ثم “تعليقه ثانية على مدى تقدم أعمال الآثار الشرقية العربية”، ثم “مصر في القرن التاسع عشر على ساحل الدنج”، و”الإسلام في جيبوتي”، و”على ساحل جزيرة العرب”، و”في الخليج الفارسي”  .

بدأت علاقة ماسينيون بالمتصوفة عندما وقع في يده أشعار للصوفي الكبير فريد الدين العطار حول مصرع الحلاج، تشيد بالحلاج وأنه شهيد التصوف وتحكي مصرعه، وهنا انتبه ماسينيون للحلاج وجذبته شخصيته، فبدأ ينتبه إليه ويُجري أبحاثاً عنه، وعندما سافر عام 1907 إلى العراق للقيام بأبحاث وحفائر في الآثار هناك لم ينسَ قضية الحلاج، بل قرر أن يبحث بحثاً علمياً تاريخياً حقيقياً وجاداً عن مأساة الحلاج، فقام ماسينيون بالعديد من الحفائر في بغداد، وزار مشاهد الشيعة في جنوبي بغداد، وزار قبري سلمان الفارسي وحذيفة رضي الله عنهما في سليمان باك.. جاءت آثار زيارته للعراق في كتاب من جزأين “بعثة في العراق”، طُبع في القاهرة في مطبوعات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، الجزء الأول عام 1910 والجزء الثاني عام 1912 .

يبدو جلياً وواضحاً تأثر لويس ماسينيون بزيارته لبغداد وزيارة مقابر كربلاء والنجف والكوفة، فكتب عدة مقالات في مجلة العالم الإسلامي – التي ترأس تحريرها فيما بعد– مثل “المحمرة”، “المعركة الأخيرة بين الرفاعية والقادرية”، “هجرات الموتى في بغداد”، “الحج الشعبي في بغداد”، وظهرت أبحاثه عن الحلاج في “علاج الحلاج والطريقة الحلاجية”، “الحلاج، الشج المصلوب والشيطان عند اليزيدية”، بل وأعاد نشر كتاب “الطواسين”، النص العربي والترجمة الفارسية، وغير ذلك أيضا .

بعد أن غادر ماسينيون القاهرة عام 1911 بعد أن ترك عضوية المعهد الفرنسي عاد إليها مرة أخرى أستاذاً في جامعتها عام (1912-1913)، وألقى أربعين محاضرة باللغة العربية، وكان ضمن تلاميذه الدكتور طه حسين.. وتوجد نسخة من هذه المحاضرات “تاريخ الإصطلاحات الفلسفية” في مجمع اللغة العربية.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن رسالة الدكتوراه التي حصل عليها ماسينيون عن الحلاج أحدثت تغييراً كبيراً في تاريخ دراسة التصوف الإسلامي، حيث حوت كل التيارات الصوفية والفلسفية، وفيها تجد صورة الحياة الروحية والدينية والعقلية في الإسلام.

حين استعرض التصوف منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى عصر الحلاج، كشف أن هذا التصوف ككل نشأ من أصول إسلامية خالصة، مستمدة من القرآن الكريم وسنة الرسول وحياته وحياة أصحابه ذوي النـزعات الزاهدة. وهو – حسب قول الدكتور عبد الرحمن بدوي- “بهذا دفع في صدر تلك الآراء المغالية الواهية نتيجة للنهج الهزيل الذي اتبع منهج الأشياء والنظائر الواهية الظاهرة للتدليل على التأثير والتأثر؛ وقد اندفع فيه نفر من مؤرخي التصوف والحياة الروحية في الإسلام من المستشرقين أمثال تولك وجولد تسهير ومكدونالد وهورتن، ولا يزال هذا المنهج يجد له مع الأسف بعض الأنصار اليوم، لما أن حاولوا رد نشأة التصوف الإسلامي إلى تأثيرات أجنبية كالأفلاطونية المحدثة والمذاهب الهندية “.

نستطيع إذن أن نعترف بفضل هذا الرجل في تفسيره لنشأة التصوف الإسلامي ونموه، في قرونه الثلاثة الأولى، من القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .

1 تعليق

  1. عبد القادر البيضاني

    بمناسبه عيد الفطر المبارك

    كل عام وانتم بخير

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...