المشهد قبل الأخير من تحرير فلسطين

بواسطة | مايو 23, 2024

بواسطة | مايو 23, 2024

المشهد قبل الأخير من تحرير فلسطين

في أحد لقاءاته التليفزيونية، التي أجراها للحديث عن ذكرياته، وتاريخ العمل الجهادي على أرض فلسطين، حكى الشيخ أحمد ياسين عن فترة النكبة التي عاصرها عام 1948، فقال: “لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت لتحارب إسرائيل السلاحَ من أيدينا، بحجة أنه لا ينبغي أن توجد على الأرض قوة غير قوة الجيوش، فارتبط مصيرنا بمصيرها، ولما هُزمت هُزمنا، وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، بينما لو كانت الأسلحة بأيدينا، لتغيرت مجريات الأحداث”.

ومن منطلق إيمانه هذا، قرر الشيخ القعيد أن ينهض بواجبات أمة بكاملها في الدفاع عن مقدساتها الإسلامية، وتحرير فلسطين؛ فاتفق مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي في قطاع غزة، الذين يعتنقون فكر جماعة الإخوان المسلمين، على تكوين تنظيم إسلامي مسلح لمقاومة إسرائيل، وأطلقوا عليه اسم “حركة المقاومة الإسلامية”، التي تعرف اختصارا باسم “حماس” وذلك عام 1987م، وهذا كان له الدور الأبرز في الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت آنذاك، واشتهرت باسم انتفاضة المساجد.

حينها استعاد الفلسطينيون زمام المعركة بأيديهم، وجاء بعد عام واحد من هذا الحراك إعلان زعيم منظمة التحرير الفلسطينية “ياسر عرفات” في الجزائر عن قيام “دولة فلسطين” وعاصمتها القدس، خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في المنفى في الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، والتي اعترفت بها الجزائر على الفور؛ ثم تبع ذلك خلال أسبوع واحد اتخاذ 40 دولة الخطوة ذاتها، وكان من بين تلك الدول الصين والهند وتركيا ومعظم الدول العربية، ثم تبعتهم جميع دول القارة الإفريقية والكتلة السوفياتية السابقة. وبين عامي 2010 و2011، حصلت الدولة الفلسطينية على اعتراف معظم بلدان أميركا الوسطى واللاتينية.

لم يكن اعتراف عشرات الدول في العالم بدولة فلسطين، سوى ترجمة لأثر الجهاد والمقاومة الفلسطينية ضد المحتل الصهيوني على الأرض؛ بينما أحدث مشاهده هو إعلان النرويج وإسبانيا وأيرلندا بشكل متزامن عن اعترافهم بدولة فلسطين، وذلك يوم أمس الأربعاء 22 مايو/ أيار، ما رفع عدد الدول التي تعترف بها إلى 147 من أصل 193 دولة عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي تقريبا ثلاثة أرباع العالم. وقد نزل القرار على الكيان الصهيوني كالصاعقة، فأشعل غضبا واسعا في تل أبيب، فقررت الأخيرة استدعاء سفراء إسبانيا وأيرلندا والنرويج، للاحتجاج على اعتراف حكوماتهم بدولة فلسطين.

وفي الـ11 من مايو/ أيار الجاري، شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة حدثا تاريخيا، تمثل في موافقة أغلبية الأعضاء على مشروع قرار بأحقية فلسطين للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة، كما أوصى كذلك مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر في مسألة حصول فلسطين على العضوية الكاملة فيه.

ليس هذا وحسب ما أثمرته المقاومة الإسلامية في غزة بتاريخها الطويل في جهاد المحتل، والذي ليس آخره عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023؛ حيث جاء طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ووزير دفاعه “يوآف غالانت”، وذلك على خلفية وقوع جرائم حرب وجرائم ضد البشرية يتحملان المسؤولية فيها أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة.. جاء الطلب كخطوة مهمة وقوية ستساهم في زيادة نبذ دولة الاحتلال الإسرائيلي وعزلها دوليا، ووصمها كدولة مارقة، انتهكت القوانين وعصفت بحقوق الإنسان.

وفي حالة صدور مذكرة الاعتقال، فمن شأنها تقييد حرية التنقل الدولية لنتنياهو ووزير دفاعه “جالانت”، حيث إن جميع الأطراف المتعاقدة في المحكمة الجنائية الدولية، وعددها 124، ملزمة باعتقال الأشخاص المطلوبين على أراضيها وتسليمهم إلى المحكمة، وهو ما تمت ترجمته على الفور في إعلان وزير الخارجية النرويجي “إسبن إيدي” عن استعداد بلاده لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير جيش الاحتلال، في حال صدور مذكرة اعتقال بحقهما. وقال إيدي: “نحن ملزمون باعتقال نتنياهو إذا زار بلادنا بعد صدور قرار من المحكمة الجنائية الدولية”.

وكمثال على ما ينتظره القادة الإسرائيليون، نجد أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد ابتعد عن معظم الاجتماعات الدولية منذ أن أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحقه، بتهمة اختطاف أطفال أوكرانيين ونقلهم إلى روسيا، واكتفى بالسفر إلى الدول التي ليست أعضاء بالمحكمة الجنائية الدولية، ولا تعترف بسلطتها.

حالة العزلة الدولية تلك، والتي سقطت فيها إسرائيل، عبرت عنها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية الرصينة بعبارة كاشفة، عنونت بها غلافها، في 21 مارس/ آذار، قائلة: “إسرائيل وحيدة”.. وهو ما أكد عليه أيضاً البروفيسور اليهودي “جيفري ساكس”، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة “كولومبيا” الأميركية، والذي يُعدّ واحداً من أهم الاقتصاديين في العالم ومن أكثر المفكرين تأثيرا في اليسار الأميركي، في مقابلة له مع صحيفة “هآرتس” العبرية، في مارس الماضي، وقام بترجمتها موقع الجزيرة، حيث قال: إن إسرائيل باتت معزولة تماما ومنبوذة، باستثناء الدعم الذي تتلقاه من الأمريكيين.

وقد توقع الأكاديمي المرموق أن توقف أميركا مساعداتها العسكرية لإسرائيل عاجلا أم آجلا، وذلك لعدة أسباب، منها المعارضة الشعبية في الولايات المتحدة لتمويل الحرب في غزة وأوكرانيا، بالإضافة إلى الديون التي تُثقل كاهل أمريكا، وكذلك استهجان الشباب الأميركي للوحشية الإسرائيلية، وتقويض الرواية القائمة على مظلومية الشعب اليهودي وحقه في فلسطين.

يمكننا القول، إن تأثير طوفان الأقصى والحرب على غزة، لم ينحصر في انهيار السردية الإسرائيلية وافتضاح المزاعم الصهيونية، وسقوط خرافة معاداة السامية، بل تخطاها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير؛ فانتفاضة الطلاب التي تمددت عبر عشرات الجامعات الأمريكية والأوروبية، ما هي إلا موجة رفض جامحة في نفوس هذا الجيل لسياسات الغرب وتوجهاته، بعدما انفضح زيفها وظهرت ازدواجيتها، فارتفعت الأصوات التي تنتقد بشدة المواقف الحكومية الغربية، الداعمة للمجازر والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وقد حول الطلاب رفضهم هذا إلى مطالب عملية، تدعو إلى قطع العلاقات بين جامعاتهم والجامعات والمراكز البحثية الإسرائيلية، ووقْف تمويل جامعاتهم للمشروعات التي لها صلة بالاقتصاد الإسرائيلي.

بينما جاءت أكثر المواقف وضوحا، في تعرية الارتهان الغربي للمشروع الصهيوني، وكشف القناع عن زيف الحضارة الغربية بأكملها، وسقوطها أخلاقيا وتاريخيا بشكل لا لبْس فيه، حينما صرح مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية “كريم خان”، بأنه تلقى تهديدات أثناء إجرائه تحقيقات ضد مسؤولين إسرائيليين، حيث تحدث “خان” في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الأميركية عن تهديدات بعض القادة الغربيين (لم يحدد هويتهم) لأعضاء المحكمة، من أجل ثنيهم عن نيتهم إصدار مذكرة اعتقال بحق القادة الإسرائيليين، فقال: لقد كانوا صريحين للغاية معي، وقال لي أحد كبار القادة: “هذه المحكمة أنشئت لإفريقيا وللبلطجية أمثال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وليست لدول الغرب وإسرائيل”.. لكنه أكد كذلك أن تلك التهديدات لن تمنعه، وأعضاءَ المحكمة، من الوفاء بالتزاماتهم نحو تحقيق العدالة وملاحقة المجرمين.

في النهاية، دعونا نختم بما صرح به المؤرخ الإسرائيلي البارز، أشهر مؤرخي النكبة، والمحاضر في جامعة حيفا وجامعة “أكستير” بالمملكة المتحدة، البروفيسور “إيلان بابيه”، حيث قال في مداخلة تليفزيونية له: “إن ما يمنحني الأمل أثناء متابعتي لتلك الحرب الوحشية، هو أن المشروع الصهيوني لم يعد أمامه وقت طويل ليبقى ويعيش، فنحن نشهد مسارات تاريخية مهمة ستؤدي إلى انهياره بالتأكيد”؛ وأضاف: قد يستغرق الأمر بعض الوقت، فقد يكون العام المقبل والذي بعده خطيرين للغاية، لكن على المدى البعيد أنا متفائل جدا بأن تكون هناك حياة مختلفة لليهود والعرب، بين النهر والبحر، في دولة  حرة اسمها فلسطين.

3 التعليقات

  1. د. محمد

    بارك الله فيك أختى الفاضلة
    الشرف لنا أن نقرأ كل ما تتفضلى بكتابته

    الرد
  2. محمد الياسين

    مقال رائع ورؤية جميلة.. لا احبط الله لك ولنا املا

    الرد
  3. صوت وطن

    ‏اللهم منزل الكتاب وهازم الأحزاب اللهم يامن لا يُرد أمرك ولا يُهزم جندك يامن لا إله إلا هو الأحد الصمد اللهم انصرالمجاهدين في غزة الله سدد رميهم وثبت اقدامهم و رفع رياتهم وحقق غايتهم واعلي كلمتهم اللهم أيّدهم بجند من عندك اللهم ثبّت أقدامهم وسدّد رميهم اللهم عليك باليهود وأعوانهم
    اللهم شتت شملهم واعمى أبصارهم واقذف الرعب في قلوبهم ٱمين ٱمين يارب

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...