النبي موسى “عليه السلام” مصري!

بواسطة | مارس 4, 2024

بواسطة | مارس 4, 2024

النبي موسى “عليه السلام” مصري!

في لقاء سيغموند فرويد مع ستيفان تسفايج في لندن، التي لجأ الاثنان إليها أثناء الحرب العالمية الثانية، قال فرويد لتسفايج اليهودي النمساوي: أبدي حزني على أنه في الوقت الذي يواجه فيه اليهود مأساة واضطهادا من هتلر في ألمانيا، يصدر كتابي عن موسى ليقول لهم إن أفضل وأعظم رجل فيهم ليس عبرانيا، بل مصريا.. هو مواطن مصري.

ذكَّرني أمر هذا اللقاء – أو قل أخذني- إلى كتاب الطبيب النمساوي اليهودي سيغموند فرويد “موسى والتوحيد”، الذي درس نشوء الديانة التوحيدية من وجهتي نظر تاريخية وتحليلية نفسية، ويذكر فيه أن اليهود ثاروا على موسى وقتلوه للتخلص من عبادة إلهه!

كتاب “موسى والتوحيد” هو الكتاب الأخير الذي صدر لفرويد في لندن عام 1938، حيث خرج مسافرا بحجة مرضه هربا من الحكم النازي، وكان لسكرتيرته ماريا بونابرت دور كبير في إخراجه إلى لندن التي مات ودفن فيها عام 1939، وهو في الثالثة والثمانين من عمره؛ إلا أن فرويد كتب هذا الكتاب قبل نشره بوقت طويل، ونشر منه الفصلين الأول والثاني.. صدرت من الكتاب طبعة عربية عن دار الطليعة في بيروت عام 1973، ترجمها جورج طرابيشي.

تحتل مصر الأهمية الجغرافية والتاريخية والدينية الكبرى في هذا الكتاب، مع بلاد كنعان. ومصر حاضرة ليس في أعمال سيغموند فرويد فقط، بل في أعمال عديد من كتاب ذلك العصر وموسيقييه؛ مثل بلزاك، شتراوس، برنارد شو، جي دي موباسان، وغيرهم.

يقدم فرويد العديد من القراءات القديمة، التي تثبت من وجهة نظره أن النبي موسى عليه السلام كان مصريا، وأنه أحد قادة أخناتون أو أمنحتب الرابع، آخر سلالة فراعنة الأسرة الثامنة عشرة.. ربط فرويد بين الفراعنة واليهودية بأن التوحيد في الديانة اليهودية ما هو إلا امتداد لتوحيد أخناتون، حيث حمل موسى من بعده التوحيد لينقله إلى العالم.

في الكتاب وضع فرويد التاريخ على سرير التحليل النفسي مثل الإنسان! البحث مدهش في التحليل النفسي للتاريخ من خلال علم النفس الجمعي، حيث ينام التاريخ على “شيزلونج” الطبيب النفسي ليعالجه نفسيا من أمراضه، ويخلصه من الذهان والجنون والعصابية. ثم يقترب من الخطر لدى اليهود، حيث يقول إن يهوه إله البراكين هو الأقرب في صورته الأولى إلى بعل، وليس الإله المصري آتون، ذلك أن يهوه كان يقيم في غرب الجزيرة العربية، وكان يُعبد من أنسباء بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر تحت قيادة موسى، وعاشوا مع قبائل مثل المديانيين والأدوميين، وكانوا جميعا يؤمنون بآتون في التوحيد، لكنهم قرروا التخلص من إلهية آتون إله الشمس وجعلوا من “يهوه” إلها لهم هم وقبائل قادش، وقتلوا موسى في سيناء، وكان الهدف من تنصيب إله جديد “يهوه” غزو بلاد كنعان والاستيلاء عليها وحكمها، وهو ما قاله يهوه وطالبهم به (لاحظوا أن يهوه لم يكن يهوديا)!

يفسر فرويد قتل اليهود لموسى بأن الهدف منه الاستيلاء على الإرث وعلى نسائه، وهو تفسير غير مقنع إذا عدنا إلى آيات القرآن الكريم التي تتناول قصة سيدنا موسى؛ مسرح الأحداث والشخوص في القرآن الكريم سيناء وجبل الطور، وتيه اليهود أربعين عاما، وعصيانهم لله والخروج عن طاعته والإيمان به. وفي الحقيقة، لم يذكر القرآن قصة قتل موسى التي تحتفي بها بعض المرويات والأدبيات اليهودية.. وكعادته، يُدخل فرويد الجنس في أي شيء في الحياة، راح يقول إن ظهور التوحيد يعود سببه إلى العقدة الجنسية الأولى أو الجريمة الأولى، جريمة قتل الأب على يد أبنائه الطامعين في السلطة والنساء.

 لكن ما ميز فرويد محاولته طرح فِكَره خارج السياق والنسق وفوق تصور العقل، عبر سرديات وقصص وحكايات وأسلوب لغوي فريد، فحين تقرأ الكتاب – وإن اختلفت معه- تجد فيه متعة أدبية وفلسفية ونفسية لتفسير التاريخ وفق مدلول نفسي، مثل مريضٍ على شيزلونج الطبيب النفسي كما ذكرنا.

السؤال الذي واجه فرويد بعد ذلك: إذا كان موسى مصريا كريم المحتد، ربما كان أميرا أو كاهنا أو موظفا عالي المقام، كيف أمكن له أن يضع نفسه رئيسا لجماعة من الأجانب أو المهاجرين ينتمون إلى حضارة دنيا؟! كيف خرجوا معه في الخروج الكبير؟ أو كيف خرج هو معهم؟ فمعروف عن المصريين وقتذاك أنهم “كانوا يستخفون بالشعوب الأجنبية”!

ثم إن موسى كان أيضا مشرّع اليهود ومربيهم، وفرض عليهم دينا جديدا “الدين الموسوي”، دين موسى متضاد تماما مع الديانة المصرية الفرعونية.. دين موسى توحيد، عبادة إله واحد أحد كلي القدرة، لا يقع تحت الإدراك، والإنسان لا يستطيع أن يتحمل رؤيته، ولا يحق له أن يصنع له صورة؛ بينما الديانة المصرية في المقابل تشتمل على عدد لا حصر له من الآلهة المتفاوتة أهمية ومنشأ.. إنه الفرق بين توحيد صارم وشرك جامح!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...