النبي موسى مصري (3)

بواسطة | مارس 18, 2024

بواسطة | مارس 18, 2024

النبي موسى مصري (3)

هذا المقال تكملة للمقال السابق النبي موسى مصري! (2)

التلاعب الذي قام به سيجموند فرويد والتخبط الذي وقع فيه، وهو يصول ويجول ليثبت مصرية النبي موسى عليه السلام، لا ينفي قيامه بجهد كبير، واطلاع واسع على المرحلة التاريخية التي عاش فيها سيدنا موسى، ومنه قوله إن تحديد الجبل المقدس في سيناء لتأسيس الدين الجديد هو تحوير تم في التوراة، لكن القرآن الكريم يخبرنا أن الرسالة نزلت على موسى وهو عائد من مدين إلى مصر، حيث تجلى له الوحي على شكل نار، وهي ليست كالنار المادية {إنِّي آنستُ نارًا}، لكن العهد القديم يقول إن هذا حدث قبل ذلك “وأمّا موسى فكان يرعى غنم يَثْرُون حَمِيه كاهن مِدْيَان، فساق الغنم إلى وراء البرّيّة وجاء إلى جبل الله حُوريب. وظهر له ملاك الرَّبّ بلهيب نارٍ من وسط عُلَّيقة” (سفرالخروج 3: 1-2).. وأمام آيات القرآن تنتفي رواية سيجموند فرويد.

أما قصة قتل موسى فيذهب فرويد إلى أنها تمت بسبب فرضه الدين الجديد قسرا عليهم، وهو يقارن بين اليهود وبين مصريي السلالة الثامنة عشرة، حيث تمردوا أيضا، لكن الفارق أنه في حين “انتظر المصريون الودعاء أن يخلصهم القدر من شخص فرعون المقدس، أخذ الساميون العتاة قدرهم بين أيديهم وتخلصوا من الطاغية”.

لكن ما استرعى انتباه فرويد أن تاريخ مصر، الذي يمتد على ألوف السنين، لا ينطوي إلا على عدد ضئيل للغاية من أفعال خلع الفراعنة أو اغتيالهم، وهذا عكس ما يرويه تاريخ مملكة آشور.

تم قمع أعمال التمرد ضد موسى بشكل دموي بناء على أمر يهوه، في سفر الخروج الإصحاح الثاني والثلاثين، تروي قصة الخروج إلى البرية وغياب موسى، واجتماع الشعب على أخيه هارون الذي صنع لهم عجلا ذهبيًّا يعبدونه، فنزل موسى غاضبا وحدث القمع وقتل حوالي 3000 رجل.

 يقول فرويد إن غرضه الوحيد من بحثه أن يدخل وجه موسى المصري في إطار التاريخ اليهودي، بأنه أضاف إلى ثنائيات التاريخ اليهودي المعروفة شعبين ينصهران ليؤلفا أمة، “مملكتين تتفرعان عن انقسام هذه الأمة، إله يحمل اسمين في مصادر التوراة، أضفنا إلى هذه الثنائيات ثنائيتين أخريين: تأسيس ديانتين جديدتين، تدحر ثانيتهما أولاهما في البداية، ولكن الأولى لا تتأخر في انتزاع لواء النصر من جديد؛ ثم مؤسِّسَي ديانة اثنين يسمى كل منهما موسى، ولكن لا مفر لنا من التمييز في شخصيتيهما، وجميع هذه الثنائيات تتفرع بالضرورة من الثنائية الأولى، كون شطر من الشعب قد عانى من حدث مفجع لم يعان منه شطره الآخر”.

هنا يأخذنا فرويد إلى التاريخ الذي يكشف دعوة التوحيد على يد إخناتون، ومن بعده جاء موسى الذي تلقى التعاليم على يد معلمه إخناتون، الذي كان يؤمن بديانته آتون واسمه تحوتمس وتحول إلى موسى، وبعد وفاة إخناتون غادر مصر في رحلة الخروج مع قبيلة سامية، كرسهم بالختان وسن لهم الشرائع، ولقنهم ديانة آتون التي كفر بها المصريون، وذهب معهم إلى بلاد كنعان، وبعد ذلك تمردوا ورفضوا الانصياع لموسى وقتلوه، وألغوا ديانة آتون كما فعل المصريون.. هذه هي رواية سيلن التوراتية الأولى.

الرواية الثانية التي اكتشفها إ. ماير تقول إن اليهود العائدين من مصر انصهروا فيما بعد مع قبائل أخرى نسبية، تقطن البلاد الواقعة بين فلسطين وشبه جزيرة سيناء وشبه الجزيرة العربية، وإنهم في منطقة قادش “اعتنقوا تحت تأثير المديانيين العرب ديانة جديدة، عبادة إله البراكين (يهوه)، وبعيد ذلك بقليل باتوا على أهبة الاستعداد لغزو أرض كنعان”.

لم يأت ذكر الإسلام في كتاب فرويد إلا في قوله المردود عليه والمكذوب من أساسه، بأن تأسيس ديانة محمد يبدو له تكرارا مختصرا للديانة اليهودية التي تقولبت بقالبها، ويظهر أن النبي فكر بادئ الأمر بأن يختار لنفسه ولشعبه اليهودية كما كانت ماثلة للأنظار عصرئذ. “وقد اكتسب العرب، باستعادتهم الأب البدائي الأكبر والأوحد، وعيا طاغيا بذواتهم أتاح لهم اجتراح نجاحات مادية كبيرة، لكن هذه النجاحات استهلكت دنياهم… غير أن التطور الداخلي للديانة الجديدة لم يلبث أن توقف، ربما لأنها كانت تفتقر إلى ذلك العمق الذي تأتّى للديانة اليهودية من مقتل مؤسسها”.

يتخبط فرويد كما ذكرنا، فبعيدا عن معرفتنا الجيدة وإيماننا عن علم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالثابت تاريخيا أن هناك اختلافا كبيرا في النشأة بين موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.

يرى سيجموند فرويد أن موسى أسبغ على الشعب اليهودي الطابع الذي ميزه ووهبة ثقة متعاظمة في ذاته، إذ أكد له أنه شعب الله المختار، وأنه مبارك وألزمه بتحاشي الشعوب الأخرى ومجانبتها، ويقصد الدين الموسوي.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...