“النُّخبة”.. هلاميّة المفهوم وتطوّره من الجاهليّة إلى الفكر الإسلامي

بواسطة | مايو 26, 2024

بواسطة | مايو 26, 2024

“النُّخبة”.. هلاميّة المفهوم وتطوّره من الجاهليّة إلى الفكر الإسلامي

 ما يزال مفهوم “النُّخبة” من أكثر المفاهيم ضبابيّةً في ظلّ فوضى المصطلحات التي تستبدّ بالواقع الإنساني، رغم أنه من أكثرها شيوعًا وتداولًا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية.

ومما يميّز هذا المفهوم تعقيده وتشابكه واستبداده، بحيث يفرض نفسه بقوّة في المحافل كلها رغم ما يعلق به من إشكالات على مرّ فترات تطوره وتدرّجه الزمني. إضافة إلى ذلك كله يميّزه أيضا أنه مفهوم لصيقٌ بالمجتمعات على اختلافها، ما يدلّ على أن وجود النخبة من حيث الأصل فطرة إنسانية وحاجة بشرية وضرورة حياتية.

وقبل الإطلالة على مفهوم النخبة وما رافقه من إشكالات، لا بدّ من التوقف مع المعنى اللغوي لكلمة “لنُّخبة” وجمعُها “النُّخَب”، إذ إن المدلول اللغوي عادةً يمثّل المنطلق للمدلول الاصطلاحي في القضايا المعرفية.

كلمة نخبة في اللغة مشتقة من الجذر “ن خ ب” بمعنى اختار واصطفى، فالنّخبة هم خيار الناس وصفوتهم، والانتخاب هو الاختيار والاصطفاء. فقد جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: “النُّخْبَةُ: خِيَارُ الشَّيء.. وهوَ مُنتَخَبٌ أَي مُخْتَارٌ”. وجاء في لسان العرب لابن منظور: “نخب: انتخب الشيء: اختاره، والنخبة: ما اختاره منه، ونُخْبة القوم ونخَبَتهم: خيارهم.. والانتخاب: الاختيار والانتقاء، ومنه النخبة؛ وهم الجماعة تُختار من الرجال”.

السَّراة”.. النّخبة عند العرب الأولى

كانت العرب في الجاهلية تعبّر عن النُّخبة بلفظ السَّراة، وكان السَّراة في تلافيف الوعي القبلي هم الحرز الواقي من الفوضى، وقد عبّر الشاعر اليمني الجاهلي صلاءة بن عمرو بن مالك، الملقّب بالأفوه الأوديّ، عن ذلك بقولِه في داليّته التي تفيض جمالًا وحكمة:

والــبـيـت لا يُـبـتَـنـى إلّا لــه عَــمـــدٌ   ولا عــمـــاد إذا لــم تُــــرسَ أَوتــــاد

لا يَصلُح الناس فوضى لا سَــراةَ لهم   ولا سَـــراة إذا جُــهّــالـهـــم ســـادوا

تُلفى الأُمور بأهل الرشد ما صـلـحت   فـإن تـولَّــوا فـبالأَشــــــرار تـنـقــــاد

 إذا تولّــى سَـــــراة القــــوم أَمــرَهـم   نمـا عـلى ذاك أَمــرُ القوم فــازدادوا

كيف الرشـاد إذا ما كـنـتَ في نفــــرٍ   لهــــــم عن الرُّشـــــد أَغـلال وأَقـيـاد

فالنّخبة هنا هي مجموعة من أهل الرّشد يقودون الناس في المجتمع الذي يراه الأفوه الأودي فوضى دونهم، فهم ضرورة للاستقرار وضرورة للتنظيم وضرورة للبناء الذي يحتاجهم أعمدةً وأوتادًا.

غير أن الإشكال هنا يكمن في الخلاف في المعنى اللّغوي الذي يلقي بظلاله على المفهوم، فالسَّراة في لغة العرب هم الأشراف والنّخبة كذلك، غير أنّ الأصل في النّخبة هو الاختيار والانتخاب بينما السَّراة لا اختيار فيها، فالنُّخبة عند العرب في الجاهليّة لم تكن تخضع لمعايير بنائيّة محدّدة واضحة ولا لاختيار بآلية معينة.

أهل الحلّ والعقد”.. النُّخبة في الفقه الاسلامي 

و”أهل الحلّ والعقد”، وإن كان مصطلحًا ‏متعلّقًا بالنّخبة السياسية في التراث الإسلامي، فإنه مع تمدّد الأيام غدا دالًّا على النّخبة بمفهومها الفكري والثقافي أيضًا.

ومصطلح “أهل الحلّ والعقد” لم يُذكر في النصوص الشرعية من كتاب أو سنة، ولم يكن معهودًا في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ وإنما هو مصطلح اجتهادي شاع على ألسنة الفقهاء وفي عباراتهم، ليترسخ بعد ذلك في عمق التراث السياسي الإسلامي. وتكمن الإشكالية فيه أنه بقي مفهومًا هلاميًّا غير واضح المعالم، وغير محدّد الآليّات، سواء في الاختيار أو العمل؛ وإنّ الحديث عن أهل الحلّ والعقد يحتاج تفصيلًا في مواضع أخرى، غير أن المهمّ هنا هو أن هذا المفهوم، الذي كان عنوانًا للنّخبة وما زال، بقي غير واضح المعالم، شائكًا في تعقيداته.

على أن هناك مصطلحًا آخر كان يطلق في تلكم المرحلة على النّخبة هو “الخاصّة”.. هذا المصطلح كان أوسع من مصطلح “أهل الحلّ والعقد”، ما تسبب بكونه أكثر هلاميّة منه، ويدخل فيه أهل السياسة والعلم والفكر والمهن والفنّ، وهو دلالة على المقرّبين من الشخصيات السياسية أو العلمية الرئيسة في الدولة والمجتمع.

ومن المهمّ في هذا الإطار الإشارة إلى أن مجتمع ما قبل الإسلام – أي مجتمع القبيلة عند العرب- وكذلك الدولة الإسلامية في صورتها الأولى، يعتمد وجود النخبة الواحدة، بينما كان الانتقال من النخبة الواحدة إلى النخب المتعدّدة متأخرًا نسبيًّا.

فمفهوم النخبة بقي هلاميًّا في العصور الأولى والمتقدمة، ولكن هل زالت هلاميّته في العصور المتأخرة والمعاصرة؟ للأسف ازداد هلاميّةً وضبابيّةً، وهذا ما يحتاج إلى تفصيل في مقال قادم بإذن الله تعالى.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
طمأنينة الشك!

طمأنينة الشك!

لستُ بحاجة إلى مقدمات طويلة أمهد بها قولي، وأشرح فيها مقصود عنوان مقالي.. نعم، طمأنينة القلب والفؤاد، وراحة الذهن والبال، التي لا تتأتى إلا عن يقين يولد بعد مخاض طويل، ورحلة شاقة في أودية الشك! الشك الذي ظلموه كثيراً، واعتبروه شارة خطر، ودلالة على ارتباك ومراهقة...

قراءة المزيد
نماذج عُلمائية مُلهمة.. (أبي بن كعب) صاحب رسول الله، وسيد القرّاء في زمانه

نماذج عُلمائية مُلهمة.. (أبي بن كعب) صاحب رسول الله، وسيد القرّاء في زمانه

قي سُبُلِ المتقين ومدارج السالكين، الصحابي أبي بن كعب بدري من بني مالك بن النجار من الخزرج، كاتب وحي رسول الله ﷺ، ومن كتّاب كتب النبي ﷺ للقبائل، ومقرئ الوفود القرآن في زمن رسول الله، عالم الحفّاظ، وحافظ العلماء، وسيد القرّاء، وحافظ كلام الرحمن، أبو منذر الأنصاري،...

قراءة المزيد
Loading...