بروكست لا يموت!

بواسطة | سبتمبر 19, 2023

بواسطة | سبتمبر 19, 2023

بروكست لا يموت!

بين حزني على ما حلَّ بالمغرب إثر الزلزال، وما جرى في درنة الليبية وبعض القرى حولها كالبيضا بعد إعصار وفيضان، وما خلفه ذلك من ضحايا وخراب، وبين قول من يرى مصر محروسة، وأنه لو أتى عليها ما أتى على درنة فستحميها منشآت الدولة من بنية تحتية، بين هذا وذاك وجدت نفسي أنظر حولي لأرى العجب؛ فهناك من يرى هذا انتقاما من الله، ولا أعرف كيف ينتقم الله من الأبرياء.. لا أحد يتحدث عن الحروب في ليبيا بين طوائفها، وعن الفساد الذي أدى لأن تنهار سدود درنة فيحدث الفيضان ويكتسح كل شيء!.
ذهبت يوما في التسعينات إلى مؤتمر ثقافي في مدينة البيضاء القريبة من درنة، فلم أجد في المدينة دكانا أو مكتبة فيها ماكينة تصوير للورق، لأن الدولة تراقب كل شيء وقد يكون في الأمر نوع من التجسس؛ خلال الأيام الأربعة للمؤتمر لاحظت شابا ليبيا كثير النظر لي فأدهشني ذلك، وفي الليلة الأخيرة قبل السفر أقاموا لنا سهرة في خيمة فيها غناء ورقص بدوي، فجلس ذلك الشاب جواري، وبعد قليل سألني: “من فضلك، هل لديك تفسير لتسمية القذافي ليبيا بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي؟”، ابتسمت وسألته: هل تنظر لي كل يوم طوال الوقت لتسألني هذا السؤال؟. همس لي: “لأني خائف من كل هؤلاء، فكلهم يعملون مخبرين للدولة”. أدهشني رعبه، فابتسمت وقلت له إن القذافي يحب الشعر، وأعطى ليبيا اسمها على وزن بحر الطويل في الشعر.. ضحكنا، لكني طبعا لا أنسي هذا الشاب.
حكايات كثيرة توضح أن الشعب الليبي لم يكن له دور في بلده، وحين حدثت الثورة لم يتغير الأمر، بل ازداد بؤسا بالحروب بين الطوائف المختلفة. ولا أنسى أنني قمت بجولة في مدينة درنة، وخاصة القديمة، فرأيت منطقة الجبل الأخضر المليئة بالوديان والمياه وكافة أنواع الأشجار، وفيها أسراب نحل لا نهاية لها، وسألت من معي: كيف لاتستفيد الدولة من هذا النحل في استخراج عسل النحل والتجارة به، ولا تستفيد من هذه الأشجار؟! فسكت ثم قال لي: “الزعيم هو من يملك القرار وحده”. رأيت في درنة القديمة بقايا آثار رائعة من الفترتين اليونانية والرومانية، منها تماثيل لشخصيات أسطورية مثل زيوس وأفروديت وهرقل وغيرهم، فتوقفت عن سؤاله عن سبب عدم استغلال مثل هذه المناطق للسياحة العالمية، لأني أعرف الإجابة.. استمتعت بيومي واكتفيت، ولم أعد أسأل أحدا عن شيء بعد ما جرى من الثورة ومقتل القذافي، وما دخلت فيه ليبيا من صراعات كان طبيعيا بسببها أن تصبح الحياة اسوأ.
حدث الإعصار وآلاف الضحايا يزدادون كل يوم، فشملني الحزن، ولم أعلق على السوشيال ميديا على من رأوا في ذلك انتقاما من الله، ولا على من قالوا إن الإعصار لو وصل إلى الإسكندرية فلن يؤثر فيها بسبب مشروعات الدولة العظيمة في البنية التحتية. طبعا لم يصل الإعصار إلى الإسكندرية لضعفه في الطريق، لكني صرت أفكر.. ماهي البنى التحتية التي يمكن أن تحمي الإسكندرية وما يقام هو كباري في كل مكان؟ هل يقصدون أننا نستطيع أن نهرب فوقها لو حدث فيضان مثل الذي حدث في ليبيا مثلا؟.
تذكرت الحدائق التي كانت أيام الملكية تقام في مصر على طريقة الحدائق في فرنسا، مثل حدائق الأورمان التي أُنشئت شبيهة بحديقة التويلري الفرنسية، ومثل حديقة قصر المنتزه التي قطعوا الكثير من أشجارها التاريخية، ومثل حديقة أنطونيادس الأقدم في التاريخ منذ العهد البطلمي، التي تفكرت في ما يحدث فيها. بالمناسبة، حديقة الأورمان وحديقة الحيوان بالجيزة مغلقتان الآن ولمدة عام للتطوير، وأصدر مجلس الوزراء قرارا بتغيير اسم حديقة الحيوان إلى جنينة الحيوان!! صارت الحدائق تحت شعار التطوير تُنزع منها الأشجار، وتقام بدلا منها محلات للفول والبيتزا والفلافل؛ رغم ذلك لا يعدم النظام الحاكم من يروِّج له، فكل شيء تصنعه الحكومة هو الأعظم في نظرهم، رغم أنه واضح جدا أنه كارثة.
أي شخص عاقل يرى حال بلادنا في الشتاء حين تأتي النوّات سيجد مدينة كالإسكندرية غارقة شوارعها وأنفاقها في الماء.. هذه المدينة التي كانت فيها يوما طريقتان للصرف، إحداهما للصرف الصحي من البيوت، والأخرى لصرف مياه الشتاء، وكانت البلاعات تنتظر الشتاء في شغف لتحضن المطر وتأخذه في ممراتها أسفل الأرض، وتظل الأرض سالكة للسيارات والناس. قام أحد المحافظين في ثمانينات القرن الماضي بضم شبكتي الصرف في شبكة واحدة، فلم تعد تتسع للمطر والصرف الصحي معا، وصارت تطرد ما ينزل إليها فوق طاقتها إلى الشوارع. ماعلاقة الطرق والكباري بالبنية الأساسة وهي فوق الأرض، وجعلوها طريقا بين المقابر فاعتدوا على حرمة الموتي؟.
هؤلاء الذين رأوا أن ماجرى في مدينة درنة لو حدث في مصر فلن يأتي بالنتائج نفسها، بينهم وبين النظام الحاكم مصالح لن يتنازلوا عنها ولو حتى بالصمت. ألوذ هنا بالأسطورة اليونانية القديمة عن “بروكست” الذي كان لديه بيت خارج المدينة، من يمر به يعطيه الفرصة لينام، فإذا وجده أطول من السرير قطع جزءا من ساقيه، وإذا وجده أقصر من السرير شدَّ ساقيه ليطيلهما فيخلعهما من ركبتيه!.. هكذا لابد أن تكون مناسبا لسرير الحكم.
الإسكندرية بعد شهرين على أبواب نوّات الشتاء، الذي سيبدأ بنوّة “المكنسة” في الأيام العشرة الأخيرة من شهر نوفمبر. نوة المكنسة هي الأولى، وسميت بالمكنسة لأن المطر يأتي شديدا فيكنس الأرض مما عليها، ويجري فرحا إلى بلاعات الصرف الخاصة به تحتضنه بعد طول غياب، وتصبح أرض الشوارع مرآة يمكن أن ترى فيها صورة وجهك!. هذا من زمان طبعا. منذ الثمانينات -كما قلت- تم تغيير طريقة الصرف، ولم تعد نوة المكنسة تكنس الشوارع، بل تترك فيها بحيرات زادت مع زيادة مخالفات البناء وزيادة مياه الصرف الصحي. إنهم يرون هذا كل عام ثم يقولون إن ما أتى على ليبيا لن يؤثر في مصر لو أتاها، ويتجاهلون أن نوّة واحدة تفعل بالإسكندرية الكثير الآن، من غلق الطرق وتعطيل حركة السيارات. صحيح أن المياه لا ترتفع إلى الأدوار العليا من البيوت كما جرى في درنة نتيجة انهيار السدود، لكن كيف لا يرون هذا كل عام، وسيحدث هذا العام، إلا إذا منّ الله علينا وتأخرت نوة المكنسة أو لم تأتِ.
للأسف.. كُتب علينا أن ننام في غرفة “بروكست”، الذي صار حقيقة رغم أنه أسطورة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...