بيجوفيتش الذي استوقفني

بواسطة | سبتمبر 12, 2023

بواسطة | سبتمبر 12, 2023

بيجوفيتش الذي استوقفني

منذ أكثر من عشرين عاما، وفي أحد شتاءات صنعاء الباردة، لمحت لأول مرة في حياتي وأنا خارج من مسجد الجامعة الجديدة، الذي كُنت أسكن بالقرب منه أثناء دراستي الجامعية، كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”؛ كان ضمن الكتب التي ضمتها مكتبة المسجد الزجاجية الصغيرة المتواضعة والمغلقة أيضا، وقد لفت انتباهي وأثار فضولي فيه أني قرأت اسم مؤلفه، فكان علي عزت بيجوفيتش.
وقفت أمام المكتبة منتظرا ظهور أحد ما لعله يكون مسؤول المكتبة، فأستعير الكتاب لبعض الوقت.. ولكن دون فائدة، حيثُ أُخبرتُ أن مسؤول المكتبة غير موجود، ولعله مسافر وقد يعود بعد يوم أو يومين. لم أستسلم، واعترتني حالة من الفضول الشديد لاقتناء الكتاب بأي طريقة كانت، فخرجتُ مباشرة أبحث عن الكتاب أملاً بأن أجده يومها في مكتبات صنعاء القريبة مني، ولكني للأسف لم أتمكن من العثور عليه مطلقاً، وحصلت على وعود بتأمينه بعد أيام.
وبحكم مجاورتي للمسجد حينها وحضوري معظم الصلوات فيه، كان من حسن حظي أني التقيت مسؤول المكتبة في اليوم التالي، فطلبتُ منه الكتاب ووافق على إعارتي إياه، على أن أقرأه خلال ثلاثة أيام ثم أعيده؛ فأخذتُ الكتاب الذي وقع بين يدي وانطلقت أتصفحه بنهمِ شديد ورغبة جامحة وشراهة لقراءته، ومضيت للاعتكاف معه طوال الأيام الثلاثة التالية، فاكتشفت أن الكتاب لا تكفيه ثلاثة أيام لقراءته، بل قد يحتاج عشرة أيام خالية من أي انشغالات أخرى، لتفكيك مصطلحات الكتاب واستيعاب فِكَره الصلبة والعميقة، والصعبة على أي قارئ ليس لديه اطلاع واسع على كثير من القضايا الفلسفية والفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً.
اعتكفتُ ثلاثة أيام بلياليها في قراءة الكتاب، وذهبت بعد انقضائها أطلب تمديد فترة الإعارة لثلاثة أيام أخرى، فالكتاب صعب وموضوعاته عميقة، وقد فتحت لي أبوابا معرفية كانت مغلقة، ولم يكن يخطر في بالي يوما أنني سأمر عليها بهذا الشرح وهذا العمق الذي طرحها فيه المفكر الإسلامي الكبير علي عزت بيجوفيتش، الذي تشكلت لدي عنه صورة أخرى غير تلك الصورة النمطية عن الزعيم والقائد السياسي والعسكري الفذ، إذ رأيت فيه أيضا المفكر الكبير والفريد الذي جمع بين القول والفعل معا في ظاهرة قليلة الحدوث في عالم الأفكار والمفكرين.
قبل قراءة الكتاب كانت لعلي عزت بيجوفيتش في ذهني صورة الزعيم السياسي والقائد العسكري الفذ والشجاع، الذي تمكّن من إنقاذ شعبه من مؤامرة قذرة ومحققة، تواطأ العالم كله فيها ضد شعب مسلم أعزل ومحاصر، فتمكن بيجوفيتش رغم كل ذلك من الخروج بأقل الخسائر، وإنقاذ شعبه من إبادة وحشية محققة سقط فيها كثير من الضحايا الأبرياء. أما بعد أن قرأتُ كتب بيجوفيتش، بدءا من “الإسلام بين الشرق والغرب”، الذي قادني بدوره لقراءة كل كتبه الأخرى، وبالأخص “البيان الإسلامي” أو “الإعلان الإسلامي”، والذي كان بمثابة رد على “البيان الشيوعي” للمفكر الشوعيي الشهير كارل ماركس، عدا كتابه العظيم في خواطر السجن وهو “هروبي إلى الحرية”، ذلك الكتاب الذي دوّن فيه تأملاته في السجن؛ وللعلم فإن جل كتابات بيجوفيتش هي نتاج مرحلة السجن، باستثناء “الإعلان الإسلامي”، الذي قاد بيجوفيتش إلى السجن، وفيه فُتحَت له آفاق التأمل بشكل واسع، لأنه دخله حاملاً لقضية آمن بها.
إن قصة حياة شخص كعلي عزت بيجوفيتش، تشكل ظاهرة جديرة بالتأمل والدراسة.. فكيف لشخص بهذا الهدوء واللطف أن يصنع كل ما صنع، وأن يجمع بين رجاحة العقل والحكمة وقلب الشجاع في آن؟! فالشجاعة قلما تجتمع مع الحكمة، لكن هذا حدث في الظاهرة البيجوفيتشية، إذ إن فيلسوفا حكيما وقائدا محاربا وشجاعا واجه العالم كله معتصما بالله، موقنا بعدالة قضيته وعظمة شعبه المجاهد.
وبقدر ما فتحت لي شخصية علي عزت بيجوفيتش آفاقا معرفية رحبة في مياين الفكر والفلسفة، فعلَتْ ذلك وأكثر في حياتي الروحية، لقد نقلتني قصة حياة بيجوفيتش إلى مدارج سلوكية وروحية عالية جدا، لا يدركها سوى أصحاب المجاهدات والتصوف الحقيقي، وتحقق لي ذلك بعدما لمست كيف أحال بيجوفيتش الجحيم في حياته إلى نعيم والمستحيل إلى ممكن والضعف إلى قوة، وكل هذا لا يمكن أن يكون بغير إيمان عميق ورضى وتسليم لله بعد بذل الوسع واستنفاذ كافة الأسباب.
إن فلسفة الإيمان لا تأتي ولا يمكن فهمها من عوالم  التنظير المجردة كتلك التي نقرأها في كتب الفلسفات  المختلفة، وإنما هي نتاج ممارسات وتجارب ومجاهدات على أرض الواقع؛ ولهذا يرى بيجوفيتش أن الإسلام يعكس فلسفة جديدة كل الجدة، تتطلب من الإنسان أن يحيا -في وقت واحد- حياته الجوانية وحياته البرانية، الحياة الأخلاقية والحياة الاجتماعية، الروحية والمادية معاً.. وبدقة أكثر، تقتضي هذه الفلسفة من الإنسان أن يتقبل بوعي كامل وإرادة كاملة جميع جوانب هذه الحياة باعتبار أنها تحقق إنسانيته. (الإعلان الإسلامي صـ 111).
إن هذه المعاني التي عاشها وتمثلها بيجوفيتش في حياته تجعلنا نتوقف أمام هذا الرجل بإكبار، هذا الرجل الذي عاش مع واحد من أسوأ الأنظمة الشيوعية قمعا وازدراء للأديان، وللإسلام تحديدا، وتربى داخل أنظمته التعليمية وأنساقه الثقافية، ومع ذلك تجاوز بيجوفيتش كل هذه السياجات الذهنية المضروبة حوله، والتي تحول بين الناس وبين امتلاك إرادتهم الحرة، وتخلق منهم شخصيات كرتونية مسلوبة الإرادة والاختيار.
إن هذه القدرة الهائلة على التفكير والاستبصار والتأمل والتركيز وسبر أغوار الأمور، واستيعاب الفلسفات كلها من غربية وشرقية، إسلامية ومسيحية، روحية ومادية، بهذا المستوى من الإبداع والعمق والغوص، لهي قدرة تتجاوز ما يعطيه التأمل الذاتي وحده، ما لم يكن ذلك مشفوعا بهداية إلهية، أُلقِيت على قلب الرجل وهو في قلب محنته الكبيرة تلك، والتي خرج منها بهذا القدر من الحكمة والمعرفة، الذي تجلى بكل هذا الوضوح وهذا العمق معاً.
تكمن عظمة بيجوفيتش اليوم في نموذجه التحليلي والتفسيري الذي خطه وسطره، وجمع فيه بين العلم والعمل معا، هذا النموذج يشكل الظاهرة التي وقف عندها الدكتور عبد الوهاب المسيري، الشارح الأول لأفكاره، ليقول إن بيجوفيتش صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها، هذه التركيبة المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، وهي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي. الإسلام بين الشرق والغرب صـ 9.
كثيرون مروا وتركوا آثارا بعد رحيلهم، لكن ما تركه علي عزت بيجوفيتش سيبقى له أبلغ الأثر، فقد ترك أثرَه فكرا ونضالا وفلسفة وأدبا وشعرا ونثرا وكفاحا، وقلما تجتمع هذم كلها في شخص واحد، هذا الأثر الكبير والعميق ستلمسه أجيال عدة، لن تعرف سواه قامة فكرية وسياسية وفلسفية ونضالية بهذا البهاء والجمال والإبداع والسمو.
إن جلالة الصورة التي رسمها وخلدها بيجوفيتش بقصة حياته المترعة بالعظمة والبساطة معا، المليئة بالكفاح والنضال والصبر والمصابرة والمثالية الإنسانية، لهي أعظم صورة يمكن أن تراها وتمر في حياة هذه الأجيال بعيدة الحال عن منابع وقصص البطولة والأساطير التي تمتلئ بها كتب التاريخ والتراث، وهي قصص أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة ، بعكس صورة الظاهرة البيجوفيتشية التي رأيناها بأم أعيننا وعايشناها واقعا ماثلا أمامنا، وفي القرن الواحد والعشرين المثقل بفلسفته المادية القاتلة.
إنني، كجُلِّ هذه الأجيال اليوم، مدين بكثير من الفضل معرفيا وروحيا، لميراث وتراث وتجربة وقصة كفاح وحياة هذا المجاهد المجتهد والفارس الراهب -بحسب المسيري- الذي يمثل فكره وتراثه وتجربته زادا علميا ومعرفيا وروحيا مهما في مواجهة هجير الفلسفات المادية القاتلة، التي يكتوي بنيرانها معظم شباب اليوم، هذه المادية الغرائزية التي لا تقوم على فلسفة أو مبدأ، ولا تستند إلى معرفة ما بقدر استنادها إلى التفاهة والضحالة والسطحية المشحونة بالبهيمية المعاصرة.
لهذا كله استوقفني بيجوفيتش، بنضاله ومكابدته ومنهجه الوسطي المعتدل، فجسَّدَ لي وللأجيال  بقصة حياته نموذجا ملهما، وقدوة عظيمة وصالحة لهذه الأجيال الحائرة بين تخلف المحافظين المشدودين لاستعادة ماضٍ لسنا معنيين به وتفاهة دعاة حداثة لا علاقة لهم بها، أولئك الذين يرون الحداثة انقطاعا عن القيم والمبادئ وأسس الإيمان، وذهابا بعيدا في صحاري التيه والضياع والتنكر لسنن الفطرة الإنسانية السليمة.. فرحم الله علي عزت بيجوفيتش، الإنسان والمعلم والقائد والزاهد والسياسي والمفكر، الذي مرت ذكرى مولده الـ98 في 8 أغسطس الماضي، وستحل ذكرى وفاته الـ 20 في 19 أكتوبر القادم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...