بين الشعب الأمريكي ونخبته الحاكمة

بواسطة | أغسطس 29, 2023

بواسطة | أغسطس 29, 2023

بين الشعب الأمريكي ونخبته الحاكمة

الفكرة التي تكاد تكون مستقرة لدى الشعوب العربية عن الولايات المتحدة الأمريكية، هي الفصل بين الشعب الأمريكي، الذي لا يتجاوز كونه شعبا باحثا عن رغد العيش، ومنشغلا بخاصة نفسه عن شؤون العالم، وبين النخبة الحاكمة التي دأبت على الظهور العدائي لغيرها من الأمم.
لكن على الرغم من هذا تتبادر الأسئلة إلى الأذهان للاستفسار عن سبب سلبية هذا الشعب، ورضاه بالإدارات العدوانية لبلاده المعادية للإنسان، وعدم استعماله آليات الديمقراطية لتنحيتها عن مراكز القرار السياسي والعسكري؛ بمعنى أوضح: لماذا لا يثور الشعب الأمريكي على النخبة الحاكمة رغم أنها العدو الأول لكثير من دول العالم، وصاحبة تاريخ أسود من الإمبريالية؟.
لقد سُئل الدكتور عبد الوهاب المسيري مثل هذا السؤال، فأرجع هذا الصمت إلى ما أسماه “تقسيم العمل” في الولايات المتحدة، حيث تخصصت النخبة الحاكمة والحكومة الفيدرالية في مسائل الدفاع والأمن والسياسة الخارجية، فإليها القرارات السياسية الكبرى التي تحدد مصير الأمة، بينما تركت للجماهير الأمور الأخرى كالمطافي والبريد والتعليم والرعاية الصحية، وبعض قضايا الأمن الداخلي كالمرور وتزايد معدلات الحرارة، وكل ما يتخذ في هذا المجال يتم من خلال إجراءات ديمقراطية صارمة.
وقد يتعجب البعض لإجابة الدكتور المسيري، ويرى أن هذا التقسيم طبيعي جدا، وسبب التعجب أن كل النخب الحاكمة في الوطن العربي تسيطر على كل ما ذُكر، وهذا حقيقي، لكنه ليس أمرا طبيعيا في الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة، فالجمهور بيده التأثير على القرار السياسي والعسكري، وقد حدث هذا بالفعل في حرب فيتنام، على الرغم من أن غالبية الشعب قد أيدت التدخل الأمريكي لصد التيار الشيوعي، لكن مع تزايد الخسارة البشرية للأمريكان في الحرب، ضغطت الجماهير وخرجت إلى الشوارع مطالبة بسحب القوات من فيتنام، وقد كان.
الشعب الأمريكي لا يجد غضاضة في هذا التقسيم، لأن نخبته الإمبريالية أرادته مجتمعا استهلاكيا ينظر للإنسان باعتباره مجموعة من الحاجات المادية والجسدية، فأصبح المواطن الأمريكي لا يؤمن إلا بالقضايا التي تخصه بشكل مباشر وتتعلق بأموره الحياتية، ومن ثم فهو لا يكترث غالبا للسياسة الخارجية التي تحدد النخبة ملامحها، طالما أنه لا مساس بالأمور المعيشية وجودة الخدمات ومستويات الأجور ونحو ذلك.
الشعب الأمريكي يعاني ضعف الإدراك السياسي والثقافي لا كما يظن كثير من العرب، ولك أن تتخيل أن إحدى الدراسات التي أجرتها سابقا مجلة ناشيونال جيوجرافيك الأمريكية كشفت أن 83% من الشباب لا يستطيعون تحديد موقع أفغانستان جغرافيا، في الوقت الذي كانت القوات الأمريكية فيه تعيث في أرض أفغانستان فسادا، بل كشفت الدراسة أن أكثر من نصف شباب الولايات المتحدة لا يعلمون الموقع الجغرافي لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من أن الولايات المتحدة هي الراعي الرسمي لذلك الكيان.
الشعب الأمريكي يعيش عزلة نوعية عن العالم، ويكتفي برفاهية المعيشة، وهو أسير إعلام النخبة، الذي يحركه وفق متطلبات السياسات الأمريكية، فلا يرى هذا الشعب في عمومه من أحوال العالم إلا ما يريه الإعلام إياه.
وبسبب هذا الاستجهال، وبسبب فرض تقسيم الأعمال الذي ذكرناه آنفا، لا يستطيع الشعب الأمريكي فهم السياسات الخارجية للنخبة، والعربدة العسكرية التي تمارسها في غير بقعة من العالم، لأن هذا الإعلام نجح بامتياز في خطابه القومي ذي الأبعاد الأخلاقية والقيمية، فهو يتدخل بآلته العسكرية هنا وهناك من أجل حقوق الإنسان، أو إرساء الديمقراطية، أو حماية الأمن القومي الأمريكي وغيرها من المزاعم المضللة.
وعلى سبيل الاستجهال أيضا، تدرك النخبة أنه لابد من خلق وإيجاد عدو للولايات المتحدة، لكي تعبئ هذا الشعب وتسيّره خلف إدارته في سلاسة، وتجبره على الالتفاف حولها بالتهويل والتخويف من ذلك العدو.
 في السابق كان الشبح الذي يُخوَّف به الشعب الأمريكي هو الشيوعية، لذلك لم تتوانَ الإدارة الأمريكية عن إعطاء الضوء الأخضر للحكومات العربية والإسلامية لدعم الأفغان إبان الغزو السوفييتي، واستفادت بشكل كبير من العاطفة الإسلامية تجاه الشعب الأفغاني المسلم بفتح الطريق أمام المجاهدين العرب، حتى إنهم كانوا يخرجون إلى أفغانستان بأريحية تامة، ويعودون إلى أوطانهم في أمان.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأفول الشيوعية، اتجهت الإدارة الأمريكية لخلق عدو جديد على نفس الطريقة، وكان هذه المرة ما تسميه “الإرهاب الإسلامي”، فاستغلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي فاحت منها مع مرور الزمن رائحة التآمر، لتعبئ الشعب الأمريكي خلف قيادته في مهمته المقدسة لمحاربة الإرهاب، بالترويج لفكرة أن الشعوب الإسلامية تكره الديمقراطية التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وتحقد على الأحوال المعيشية المتميزة التي يتسم بها الشعب الأمريكي، وتناصب أمريكا العداء لأنها دولة حريات، والحق والحقيقة أن الحرية في الولايات المتحدة قيمة متغيرة، خاصة إذا تعلقت بغير الأمريكان، حتى إن الأديب البريطاني الساخر برنارد شو قال: “تمثال الحرية ” موجود في الولايات المتحدة بالذات ودون أي مكان آخر في العالم، لأن البشر عادة لا يقيمون التماثيل إلا للموتى.
وإن من يشاهد الأفلام التي تنتجها هوليود وتتعلق بعض أحداثها بالعالم الإسلامي والعربي، يدرك بوضوح تلك الصورة القبيحة التي يتم تقديم أمتنا من خلالها إلى المجتمع الأمريكي.
إذن، الشعب الأمريكي لا يعارض السياسات الخارجية العدائية لإدارته، لأنه ببساطة لا يكترث لتقييم أدائها، ولا بالتدقيق في دعاياتها الكاذبة، فهو مشغول بتحقيق اللذة المعيشية بدون سقف، وتلك الأكاذيب التي لا تدركها إلا الطبقة المثقفة، والتي كثيرا ما تكون مؤدلجة، والبقية ليست مؤثرة بما فيه الكفاية لتوعية الشعب الذي يسيره إعلام النخبة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...