تعطيل القانون!

بواسطة | أكتوبر 3, 2023

بواسطة | أكتوبر 3, 2023

تعطيل القانون!

في جامعة قطر حضرت نقاشا عن الارتباط بين القانون والعلوم الاجتماعية، كانت محاضرة جميلة للدكتور حسن أحجيج، فتحت أذهاننا لفكر جديد.. بعد المحاضرة دار نقاش طرحت فيه إحدى الأكاديميات آراء حول هشاشة المعرفة القانونية في عالمنا العربي، وضرورة وضع مادة قانونية ملزمة لكل الطلبة أسوة بالجامعات الغربية، ونبهت إلى أن التجربة القانونية الدولية ضعيفة في التعامل مع دولة مثل إسرائيل. لم يكن هناك متسع من الوقت للنقاش، فأحببت أن أبدي رأيي المتواضع حول التأسيس القانوني في التعامل مع إسرائيل.. قبل أن أبدأ، أشير إلى أنني أود أن أطرح رأيي متجرداً من كل عاطفة متعلقة بالدين أو العرق، وهو رأي قانوني تبنَّى بعضه كبار الفقهاء القانونيين الغربيين، ولم يثُر على مدى التاريخ حديث قانوني كما حدث في قضية فلسطين.
أوجد الغرب هذه المعضلة بالمقولة الكاذبة: “إعطاء أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ومنذ اللحظة الأولى لصدور وعد بلفور، في نوفمبر من عام ١٩١٧، حاولت بريطانيا التمسك بقانونية ذلك التصرف عبر رسالة، جزء منها ملزم وهو وعد بإعطاء أرض فلسطين لليهود، وجزء آخر غير ملزم هو ضرورة المحافظة على حقوق القوميات والأديان الأخرى. وبعد فترة، أي في بداية العشرينيات من القرن الماضي، كانت لها محاولات للتخفيف من حدة ذلك الوعد عبر ما سُمِّي “الكتاب الأبيض”، ولكنها واصلت العمل على إنفاذ ذلك الوعد.
نذكر أولا أن فكرة الانتداب ظهرت عام ١٩١٨ من بنات أفكار الجنرال (يون سمتس)، وهو وزير بريطاني في وزارة الحرب، وكان مصطلح “الانتداب” تعبيرا جديدا في اللغة القانونية والسياسية؛ نالت هذه الفكرة ترحيبا كبيرا من الرئيس الأميركي ولسون، ولعل ظهورها في ذلك الوقت كان لتجهيز السكين بغية سلخ كثير من الدول عن الإمبراطورية العثمانية مع قرب انهيارها، لذا ساهمت في التشكيل السياسي والقانوني لتصبح من أهم محركات المشهد في الشرق الأوسط.
ولتمرير فكرة الانتداب نشأت عبارة تبرر ما سوف يحدث في قادم الأيام، وقد ذُكرت في نص المادة (٢٢) من ميثاق عصبة الأمم، وفيها: “حيث إن كثيرا من الأقاليم لم تعد تحت سيادة الدول التي حكمتها، ولم تبلغ شعوبها تلك المرحلة التي تستطيع معها النهوض وحدها، لذا ستصبح وديعة مقدسة في عنق الحضارة”. إذن أصبح كثير من الدول الضعيفة “وديعة مقدسة”، والأهم في ذلك أن الانتداب صار له أساس قانوني.
في المحصلة ظهرت دول لها حق قانوني، وهي ملزمة بواجب، لإدارة دفة دول أخرى لا تستطيع أن تقوم وحدها بتسيير أمورها؛ دون المساس بالشكل الجغرافي أو السكاني لهذه الدول، القانون يحكم الطرفين والأمر لا يتعلق بالمنطقة فحسب، بل بكثير من مناطق العالم التي سيطر عليها مستعمر متحضر يدّعي التزامه بوديعة مقدسة.. هذا التمهيد ضروري لنطرح فكرة البعد القانوني لما يسمى بإسرائيل.
وعد بلفور وإنفاذه من قبل المستعمِرة بريطانيا، ذلك التصرف هو أول تعدٍّ قانوني لما يسمى الوديعة المقدسة والانتداب، ونأخذ في هذا السياق رأي أحد كبار فقهاء القانون، وهو (البروفسور إيان براونلي) أستاذ القانون الدولي في جامعة أوكسفورد، حيث قال بعد قرار تقسيم فلسطين من قبل الأمم المتحدة إلى دولتين عربية ويهودية :”من المشكوك فيه ما إذا كان لدى الأمم المتحدة قدرة على نقل الملكية جزئيا، لأن المنظمة لا تستطيع الاضطلاع بدور السيادة الإقليمية، المنظمة ليست دولة، والجمعية العامة لها صلاحية التوصية فقط، لذا فإن القرار الصادر سنة ١٩٤٧، والذي تضمن خطة تقسيم فلسطين، كان على الأرجح خارج نطاق الاختصاص، وحتى لو لم يكن كذلك، فهو في مطلق الأحوال غير ملزم للدول الأعضاء”. وإذن، فقانونية المنظمة الدولية من حيث التقسيم على أسس دينية مبدأ ساقط، وذلك برأي فقيه من أهم فقهاء القانون الدولي.
ونأتي إلى طريقة قبول إسرائيل في المنظمة الدولية، فقد تقدمت الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، في نوفمبر من عام ١٩٤٨، بطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة للانضمام إلى عضويتها، وفي ديسمبر رفض المجلس طلب إسرائيل، وسبب الرفض جاء لأسباب متعددة، منها ضرورة الموافقة الصريحة على وضع القدس تحت إدارة دولية وبإشراف الأمم المتحدة، الأمر الذي لم تسعَ إسرائيل لتطبيقه، حيث عززت من حضورها وافتتحت المحكمة العليا فيها وجعلت من القدس مقرا لرئيس الدولة؛ والسبب الآخر عدم جدية إسرائيل في إعادة اللاجئين إلى ديارهم، أو تقديم تعويض عادل لمن لا يرغب في العودة.
في مارس ١٩٤٩ أعادت إسرائيل المحاولة، واستندت هذه المرة في تقديم طلبها إلى توقيعها اتفاقية الهدنة مع مصر، لتُظهر نفسها على أنها دولة محبة للسلام ولا تسعى للحرب. وبعد مناقشات كبيرة ومعارضة مصر وإعلان بريطانيا أنها لن تستخدم حق النقض ضد القرار لكنها سوف تمتنع عن التصويت، لم تجد إسرائيل بُدّا من تقديم تعهد بالتزام القرار رقم ١٨١ بقبول قرار التقسيم ومبدأ الدولتين، والقرار رقم ١٩٤ الخاص بعودة اللاجئين ومدينة القدس، والالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بوصف ذلك شرطا مسبقا للموافقة على قبولها في المنظمة الدولية، وقد سُجل هذا التعهد الإسرائيلي، وصدر بعده القرار رقم ١٣٧٣ في مايو ١٩٤٩، بقبول إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة مع التزام إسرائيل بالقرارين ١٨١و ١٩٤.
بذلك تكون إسرائيل هي الدولة الأولى في المجتمع الدولي، التي قُبلت عضويتها بناء على شروط، خلافا لكل الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، وبموافقتها على ذينك القرارين تكون هي الدولة الأولى التي اعترفت بدولة فلسطين، ولا يزال ذلك الاعتراف قائما حتى هذه اللحظة، ولا يُعتد بعدم اعترافها اللاحق. وبناء على ذلك صدر القرار رقم ٢٧٣ بقبول إسرائيل في عضوية الأمم المتحدة، بتصويت تسعة أعضاء وامتناع بريطانيا عن التصويت ومعارضة مصر.
هذا القرار صدر استثنائيا، ومشروطا بالوفاء بالتعهدات التي أقر بها ممثل إسرائيل أمام اللجنة السياسية الخاصة، بالالتزام بالقرارين ١٨١ و١٩٤، وها نحن اليوم في عام ٢٠٢٣؛ هل التزمت إسرائيل بتلك التعهدات؟.. بالقانون، هناك عقود معلقة على شرط واقف أو فاسخ ، إذن وجود إسرائيل في المنظمة الدولية غير شرعي، ويُفسخ لعدم تحقق الشرط الذي التزمت به لقبولها خلال ٧٠ عاما.
وللعلم فإن إسرائيل تحرص دائما على تقديم نفسها على أنها دولة تلتزم بالقانون، حتى المناطق التي استولت عليها في بداية عام ١٩٤٨ وبعد تهجير الأهالي، عملت على نقلها إلى المهاجرين اليهود بوضع شكل قانوني و بتسجيل رسمي، واستمرت دائما باتباع هذه الإستراتيجية لتظهر أنها ذات نهج قانوني حضاري، ولعل أوضح مثل صارخ يدل على توجهها، ما حدث في مطلع الثمانينيات بعد ظهور صور لبشاعة ما حدث في مخيم صبرا وشاتيلا الفلسطيني، والمجازر التي ارتُكبت ضد الأطفال والنساء والشيوخ العزل، حيث شُكِّلت لجنة قانونية للتحقيق في ما حدث (لجنة كاهان)، وتعمدت وسائل الإعلام الإسرائيلية إبرازها، وإظهار رئيس الوزراء مناحيم بيغن أمام القاضي لينفي مسؤولية حكومته عن تلك المجزرة، لتخرج اللجنة بتوصيات تُظهِر للرأي العام العالمي أنهم يديرون الدولة بمنظور سيادة القانون، ويفرضون توصيات غير ملزمة بجزاءات على عدد من الوزراء وقيادات من الجيش، وأن تلك المجازر نجمت عن أخطاء فردية والدولة ليست متورطة فيها، يحدث ذلك في حين كان (إيلي حبيقة) الذي دخل المخيم وقاد مجموعة من القتلة ليرتكبوا تلك المجزرة، يحظى بالرعاية السورية ويتوج إثر ذلك وزيرا في لبنان، والمضحك أنه حصل على وزارة الرعاية الاجتماعية، وصار يتنقل بين عواصم الدول العربية وزيرا مبجلا رغم أنه سفاح.
هناك مبدأ قانوني في كل الشرائع الموجودة يقول: “إن ما بُني على باطل فهو باطل”، وعليه فرغم كل محاولات الإسرائيليين لإظهار قانونية دولتهم وتصرفاتهم، ينطبق على كيانهم الوصف القانوني (هو والعدم سواء).
أخيراً، نعرج على ميثاق روما الذي أُسست بموجبه المحكمة الجنائية الدولية، فقد نصت المادة ٨ من الميثاق:
“جرائم الحرب ومنها:
8. قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها”.
كما يقال.. لا يحتاج هذا النص إلى تفسير أو تأويل، بل هو نص صريح ينطبق على المستوطنات التي تقيمها دولة الاحتلال بعد أن تُخرج السكان الاصليين.
متجرّداً من كل عاطفة حاولت استعراض قانونية ما يحدث في أهم قضية عالقة في هذا الوجود.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...