ثروة حاضرة.. وتخطيط غائب

بواسطة | فبراير 6, 2024

بواسطة | فبراير 6, 2024

ثروة حاضرة.. وتخطيط غائب

في ديسمبر ١٩٧٣، ارتفع سعر البترول بقيادة الإمبراطور الإيراني محمد رضا بهلوي، مما أدى إلى تدفق الأموال إلى إيران، لكن ما هي النتائج الفعلية لهذه الثروة؟

تأثيرات الثروة النفطية على إيران – بين الطموح والفشل

في ديسمبر من عام ١٩٧٣ جرى اجتماع أوبك في طهران، وحضره إمبراطور إيران محمد رضا بهلوي، الذي كان قد وصل آنذاك إلى درجة الغرور من شدة ثقته بنفسه.. بعد نهاية الاجتماع المغلق في قصر نيافران، كانت عدسات الإعلام موجهة إلى الإمبراطور الإيراني ليصدم العالم برفع سعر البترول من ٥ دولارات للبرميل إلى ما يقارب الـ ١٢ دولارا، ويقول بصوت مسموع: على الغرب أن يعي أن ثروته المبنية على النفط الرخيص انتهى زمنها.

نتيجةَ هذا الارتفاع في سعر النفط تدفق المال على البلاد، فانهالت العقود على دول المنطقة، وقد كتبت إحدى المجلات المتخصصة في الاقتصاد: إننا نشهد أكبر حالة انتقال ثروة في التاريخ، ووضعت مجلة التايم صورة الشاهنشاه بزيه العسكري الأنيق مرفقة بالتعليق “إمبراطور النفط”. وهذا القرار دفع ثمنه العالم أجمع، ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتفعت فاتورتها من النفط الأجنبي من ٣ مليارات  لتصبح ٢٤ مليارا.. لكننا الآن لا نريد أن نتحدث عن تأثيره على الخارج، بل أن نتساءل: ماذا فعلت تلك الثروة بإيران؟

الإمبراطور المنتشي بنجاحه وبإخضاع الغرب لإرادته، أخذ يفكر في الأموال التي تدخل خزينة دولته؛ فإيران التي لم تعرف المليار الأول إلا في عام ١٩٧٠، أصبح مدخولها بعد أربع سنوات ما يقارب الـ ١٨ مليارا، ليقول الشاهنشاه لوزير بلاطه بكل تيه: لا سقف لدينا في المال.

أخذت الأفكار والمشاريع  تمر في ذهن الشاه على وقع حركة الأموال التي تكدست في البنوك، واجتمع الشاه مع الفريق الحكومي في منطقة رامسر؛ وفي واحدة من أجمل الإطلالات على سهول إيران الخضراء دشن الإمبراطور خطة للإنفاق، وصفها أحدهم بـ”الطوفان”، حيث تقرر تخصيص مبلغ ٦٩ مليار لخطة تطوير إيران، التي سميت “الخطة الخامسة”، وحلم الشاه أن تنقله إلى اقتصاد يضعه ضمن العشر الأوائل على مستوى العالم.. لكن غاب عن حساباته عدة أمور، منها ضعف القدرات الفنية للإيرانيين، وعدم وجود كادر إداري مؤهل من الوزراء، والافتقار إلى فريق حكومي له تجربة تساعد على تحقيق ذلك الطموح الكبير.

طموح الشاه العمراني تزامن مع طموح عسكري، فأخذ ينفق بسخاء لشراء أحدث الأسلحة وتطوير جيشه، وصار الوسطاء والسماسرة يتوافدون على قصره، بعد أن تعززت مطامعه ليصير شرطي المنطقة وتتحقق له السيطرة بسهولة على الكيانات الضعيفة في الخليج.

لكن.. كان هناك بون شاسع بين الخطة وبين الواقع والتطبيق، بل إنها تسببت بتناقضات يصعب حلها، ومعاناة للدولة الإيرانية ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا؛ فكثرة عدد المشاريع لم تترافق مع بنية تحتية تساهم في نجاحها، وشبكة المواصلات متأخرة ولم يجر إصلاحها، والاختناقات المرورية كانت سمة شوارع طهران؛ ولهذا فإن التعامل مع الواقع تسبب في هدر مالي كبير.

نقص العمالة الماهرة المحلية كان من المشكلات المهمة أيضا، فالخطة التنموية قُدّر لها أنها تحتاج إلى ٧٢١ ألف عامل، وإحضار وتجهيز تلك العمالة الكبيرة يحتاج إلى وقت، والكوادر المحلية لم تستطع تغطية ما فيها من نقص، فضلاً عن أن الهجرة من الريف إلى طهران سببت أزمة سكن، وتشكّل ضغط شديد على الخدمات التي لم تكن مهيّأة لهذا العدد الكبير من الناس، حتى إن موظفة أمريكية حضرت للسفارة للبحث عن مكان تنام فيه، بعد نومها ليلتين في حاوية المكانس في فندق هلتون لأنها لم تجد مكانا تلجأ إليه، فقد استقطبت مشاريع الشاه الطموحة بامتيازاتها المالية ٥٠ ألف أمريكي.

الضغط على الموانئ والشوارع والطرق السريعة والمطارات تفاقم بسبب طفرة المشاريع، وأصبح تفريغ الناقلات التي تصل إلى الموانيء يحتاج ٢٥٠ يوما، ١٠٪؜ من المعدات والبضائع المتراكمة لم تعد صالحه بسبب الصدأ، والبضائع الفاسدة أُلقيت في البحر، فدفعت الحكومة ملياري دولار لتعويض شركات الشحن لما تسببت به من التأخير.. لم يكن هناك شاحنات كافية للنقل، ولتدارك هذا الأمر اشترت الحكومة ٤٠٠٠ شاحنة، والمفارقة أنها لم تجد سائقين، فقد كانت القطاعات العسكرية الغارقة بالمال تستحوذ على كل الكوادر، فهناك خطة تنموية عمرانية يرافقها طموح عسكري كبير، والجميع يريد أن ينفذ إرادة العاهل من دون أي تنسيق.

مشروع المفاعل النووي الذي تكفلت ألمانيا ببنائه مقابل مبلغ كبير جدا من الميزانية لم يكن بالإمكان إكماله، والغريب في الأمر أن تعثر المشروع كان لعدم تمكّن الحكومة من توفير العدد المطلوب (٢٠٠٠) من النجارين والبنائين!. كذلك لم تجد الحكومة شركات تقوم بالأعمال المكملة لإيصال الخدمة عبر شبكات وألياف إلى القرى والمدن، فتحويل إيران إلى ورشة عمل جعل الجميع ينشغل، بشكل يصعب معه إيجاد من يسد النقص الحاصل في اليد العاملة، في ظل فوضى عمل غير مسبوقة.

الإنفاق كبير، ولكن النتيجة فشل وشلل وانهيار لتلك المشاريع! ليخرج الشاه إلى شعبه في صحيفة كيهان، وبدل أن يبحث عن علاج للمشكلة أخذ يلقي باللائمة على الشعب في الأزمة المالية، وطلب منهم ربط الأحزمة؛ ثم قدم وصفا سيئا للواقع وتهديدا صريحا للشعب حين قال: أصبحت إيران عاصمة للبلادة والكسل، أريد أن أقودكم إلى الحضارة الكبرى بالقوة إن استدعى الأمر، وأي شخص يخالف هذا الأمر عليه أن يحزم حقائبه ويرحل، ولسوف نمسكهم من أذيالهم ونرميهم بعيداً كالفئران.

ما حدث هو الحصاد الطبيعي لخطة اختمرت ونُفّذت من دون أي دراسة، وتعرضت لظروف صعبة، ولعل أهم شيء لم يتوقعه الشاه حالة الركود العالمي وضعف الطلب على النفط، بينما تشكل العائدات النفطية ٨٥٪؜ من مداخيل إيران، ما جعل اقتصاده يتهاوى ويخرج عن السيطرة، وتندلع الشرارة لثورة اجتثت الجميع.

أخيرا، حزم الشاه حقائبه ورحل، لتنتهي الحقبة البهلوية إلى صورة بالغة التراجيديا!. إمبراطور عليل مع زوجته يجلسان على كراسي الانتظار في المطارات للحصول على إذن للدخول إلى دول ترفضهما.. نهاية غريبة لرجل كان حلم كثير من الرؤساء ومديري الشركات الحصول على دقائق من وقته.

ولقصص التاريخ بقية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

أسلحة يوم القيامة

أسلحة يوم القيامة

بلغت وقاحة الكيان الصهيوني حدودا لا يمكن وصفها منذ إعلان حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يمر يوم إلا وتسمع وترى دليلا واضحا كالشمس على حقارة وبشاعة الكيان، وطريقة تعامله الحيوانية مع الآخرين. الأسبوع الماضي استوقفني تصريح خطير جدا، أدلى به يائير كاتس رئيس مجلس...

قراءة المزيد
السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

السيسي والنسخة المُصغّرة منه في التشكيل الوزاري الجديد

في ظهيرة الجمعة 26 من مارس/ آذار انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو بث مباشر، قام بنشره شاب صعيدي، أرسل من خلاله استغاثة، وهو على متن قطار مصري اصطدم بآخر، فسقط به من الضحايا العشرات. بدا الشاب بعيون زائغة، والغبار يلف وجهه وشعره، وهو يصرخ بشدة، قائلاً "الحقونا.....

قراءة المزيد
الحاقة ما الحاقة؟

الحاقة ما الحاقة؟

 سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه!. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة.. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة الحاقة، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها، ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظم ومكانة هذا اليوم بقوله: "وما أدراك ما...

قراءة المزيد
Loading...