عن غزة وما تبقى للعرب من كرامة

بواسطة | يناير 6, 2024

بواسطة | يناير 6, 2024

عن غزة وما تبقى للعرب من كرامة

تدور حروب غزة للشهر الثالث بتدخل أمريكي وصمت عربي مأساوي. الصمت الشعبي يفسر بتراجع النخوة العربية والمطالبة بالتعامل مع التحديات. الحرب تبرز أهمية استعادة القيم والكرامة، مع التأكيد على النضال والتحول لإحياء هوية الأمة العربية.

تدخل حرب غزة شهرها الثالث، وبذلك تغدو ربما أطول حرب خاضتها دولة الكيان الصهيوني في تاريخها منذ إعلان قيامها في مايو ١٩٤٨م، وربما هذه الحرب الأولى التي تشنها إسرائيل بدعم وتدخل أمريكي غربي مباشر، وهي أيضاً الحرب الأولى التي تخوضها حركات المقاومة الفلسطينية بإمكاناتها الخاصة وتحقق فيها انتصاراً كبيراً من لحظتها الأولى، بغض النظر عن تداعيات هذه الحرب حتى اللحظة.
 لكن في الجانب الآخر لهذه الحرب، هي الحرب الأولى التي تكشف هذا الحجم من الخذلان والخيانة، والصمت العربي القاتل تجاه ما يدور في غزة من حرب إبادة بشرية همجية منحطة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مباشرةً، وبدعم بريطاني فرنسي ألماني واضح هذه المرة، في تحدٍّ سافر لكل الأعراف القوانين والمواثيق الدولية المتعارف عليها.
صحيح أننا ندرك جيداً أن الأعراف والمواثيق والقوانيين الدولية ليست سوى لعبة الكبار، الذين يستخدمونها متى ما أرادوا لتحقيق مصالحهم وتنفيذ سياساتهم، كغطاء لهذه المصالح والسياسات الإمبريالية، لكن المفاجئ هذه المرة ليس خيانة وصمت الحكومات العربية -فهذا واجبها ووظيفتها المنوط بها القيام بهما على مدى وجودها السياسي- وإنما الغريب اليوم والمستغرب حالة الصمت الشعبي للشارع العربي الذي لا يرقى إلى أي درجة من درجات التضامن، ودواعي الأخوة والنخوة ورابطة الدم والدين الواحد.
خرج العالم اليوم في الشرق والغرب خصوصاً عن بكرة أبيه، خرج في شوارع العواصم الغربية المتورطة دولها في هذه الحرب، خرج الناس في كل مكان فيما العالم العربي من شرقه لغربه لم يخرج فيه سوى القلة القليلة وعلى استحياء هنا أو هناك، كنوع من رفع العتب وإسقاط الواجب المتعين، في مؤشر واضح على مدى حالة الموات والتبلد التي وصلت إليها هذه الشعوب، وانبطاحها لرغبة حكامها الذين وصل تواطؤهم مع دولة الكيان الصهيوني لمرحلة الخيانة لفلسطين، ولغزة ومقاومتها ورجالها.
فلا شيء يفسر لنا هذا الصمت العربي الشعبي سوى أن مرض الخيانة والخذلان الرسمي يُخشى أنه قد انتقل إلى مرحلة تتحقق معها المقولة “الشعوب على دين ملوكها”، ومن ثم انتقل مرض الخذلان من النخب الحاكمة إلى عامة هذه الشعوب التي يُفترض أن تكون اليوم في قلب هذه المعركة بخروجها الهادر على امتداد خارطة الوطن العربي الكبير، وبتقديمها التبرعات وممارستها الضغط الدائم الذي لا يتوقف على حكوماتها التي وصل تواطؤها إلى مرحلة الخيانة لنضالات الشعب العربي الفلسطيني الصامد على أرضه منذ ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن.
إن حالة التعاطف العالمي مع قضية الشعب الفلسطيني لهي حالة غير مسبوقة؛ هذه الحالة التي يعكسها هذا الخروج الكبير حول العالم، والتي وصلت لمرحلة متقدمة، تعبر عن وعي إنساني كبير بمدى الظلم الذي تعرض له الشعب العربي الفلسطيني طوال سنوات نضاله وحيداً أمام آلة قمع باطشة وهمجية، وحالة من حرب السرديات الإعلامية التي تمكنت طويلاً من تغييب حقيقة المَظلمة الفلسطينية عن هذا العالم.
أما اليوم، فأعتقد أن حرب السرديات هذه قد انعكست لصالح قضية الشعب الفلسطيني، وتمكّن الإعلام البديل اليوم -وهو الإعلام الاجتماعي- أن يقدم سردية جديدة، تعكس حقيقة ما يجري من ظلم وتزييف للقضية الفلسطينية، وهذه السردية الجديدة عرَّت الجميع اليوم ووضعتهم أمام حقيقة واضحة جليَّة، وهي أن قضية الشعب العربي الفلسطيني هي أكبر قضية ظلم استعماري عبر التاريخ، وهي أعظم قصة نضال وطني تحرري مقاوم لشعب لم يرضخ يوماً للمذلة.
 لكن ماذا عن الجانب الآخر من المشهد، وهو الجانب العربي وموقفه من هذه القضية؟. وأنا هنا لا أتحدث عن الجانب العربي الرسمي، الذي يكاد موقفه يتطابق مع موقف الدول الاستعمارية الصانعة لهذه المأساة منذ لحظتها الأولى، وإنما أتحدث عن الجانب العربي الشعبي المدني، من المحيط إلى الخليج، الذي لا يسُرُّ موقفه أحداً لأنه موقف لا يرقى لحجم هذه اللحظة وتداعياتها على الدم والكرامة العربية المستلَبة.
 إن حالة اللامبالاة لم تعد مفهومة اليوم، لأنها حالة تعكس قطيعة عربية مخيفة مع تراثها العربي وثقافتها وقيمها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها، وفي ذلك كله الحض على نصرة المظلوم ونجدة الملهوف، أيّاً كان دينه أو عرقه أو مذهبه، فكيف إذا كان هذا الملهوف أخاك في الدين والدم، والعرض والشرف والكرامة؟!.
إن التاريخ العربي لما قبل الإسلام يقدّم صوراً مشرقة عن معاني النخوة والنجدة، ومنها تلك الصورة التي اختزلها ما عُرف بيوم ذي قار، ذلك اليوم العظيم في تاريخ النخوة العربية، الذي تألَّقت فيه صورة الإباء والنخوة والنجدة والشهامة العربية حينما رفض هاني بن مسعود الشيباني تسليم عُهدة النعمان بن المنذر لكسرى، ملك الفرس حينها، وصمم على أن يواجه مع أهله مصيرهم على أن يسلِّم أمانته، وتجلَّى حينها كيف هبت العرب نصرةً لهذا الموقف العظيم الذي اتخذه الرجل حتى غدا مثلاً للنجدة والنخوة والحمية العربية.
أما عرب ما بعد الإسلام، فقد أضاف لهم الإسلام مكارم الأخلاق كلها ومحاسنها جميعها، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.. وإن من تمام مكارم الأخلاق أن يهبّ العرب والمسلمون لنجدة غزة المحاصرة والمدمرة، والتي يتم فيها اليوم تجريب أقذر أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، من قبل المنظومة الغربية كلها؛ فإن دولة الكيان الصهيوني ليست إلا كياناً لقيطاً لا يعبر عن شيء سوى الغرب الإمبريالي الاستعماري الذي صنع هذا الكيان اللقيط.
إن تراث العرب الأخلاقي والقيمي اليوم يضع عرب القرن الحادي والعشرين أمام تحدٍّ حقيقي واختبار وجودي، بشأن ما يتعلق بهذا المخزون من القيم والأخلاق، الذي يكفي لأن يجعل من أمة تحوي في ذاكرتها التاريخية كل هذا البهاء أن تكون في مقدمة الأمم والشعوب، وليس في ذيلها كما هو حال عرب اليوم، فما الذي أوصلهم لهذا الحضيض؟ وكيف يمكن الخروج منه والعودة من هامش هذه اللحظة إلى متنها؟
 أين الخلل في كل ما يجري؟ ولماذا وكيف تُترك غزة اليوم وحيدةً لتدافع عن كرامة وشرف ووجود العرب جميعاً؟ أين ماتت نجدة العربي ونخوته؟ ما الذي أصاب العربي حتى يتحول إلى كائن سلبي مدجن خانع مسلوب الإرادة والكرامة؟ أين الخلل بالضبط، في الأصل أم في الصورة؟ فإن ما يعيشه العرب اليوم من تراجع -ليس في وسائل النهوض والتقدم فحسب وإنما في صميم قيمها ومبادئها- لهو الأشد خطراً على استمرار وجود هذه الأمة على خارطة العالم، كأمة لها حضورها ومكانتها التي تبوأتها يوما ما في التاريخ.
 حتماً وختاماً، إن ما أُصيب به عرب اليوم من حالة تراجع واستكانة إنما هي حالةٌ طارئه على أمة قدمت مع انطلاقة الربيع العربي، أوائل العقد الثاني من هذا القرن، واحدة من أعظم محاولات الثورة والتحرر ورفض الظلم والقهر والاستلاب والتهميش، وخرجت تطالب بحقها في حياة حرة وكريمة، وقدمت في سبيل ذلك آلاف الشهداء ولا تزال تقدم حتى اللحظة، وإن ما تعيشه اليوم من حالة الانكفاء على الجراح لهو شيء طارئ، وإنها ستتعافى من مواتها هذا لا محالة؛ ولكن ما يجب أن نعيه جيداً أن الانكفاء على الجراح لا يجب أن يتحول إلى وضع طبيعي، وأن على هذه الأمة أن تراكم نضالاتها وأن تعي دروس كرامتها جيداً بالعودة مجدداً إلى ميادين الكرامة.. والبدء من غزة العزة والكرامة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

تاريخ القراءة وسيرة مجانين الكتب

من الكتب التي بَهَرتني في بدايات دخولي عالم القراءة كتاب "تاريخ القراءة"، للمؤلف الأرجنتيني ألبرتو مانغويل؛ دلَّني عليه صديقي يوسف عبد الجليل، وقرأته أكثر من مرة، وصوَّرت نسخةً غير شرعية منه في مكتبة كانت تطبع الكتب في طنطا. وقد عُدت إليه مؤخرًا وأنا أفكر في سر جماله،...

قراءة المزيد
لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

لا تخدعنَّك مظاهر التقوى!

في الحكايات الشعبية لبلاد الفرس، أن صيادًا كان يصطاد الطيور في يوم عاصف، فجعلت الريح تُدخل في عينيه الغبار، فتذرفان الدموع! وكان كلما اصطاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في الكيس. وقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا، ألا ترى دموع عينيه؟ فرد عليه الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه،...

قراءة المزيد
الضحالة والمعرفة السائلة

الضحالة والمعرفة السائلة

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (١٩٢٥-٢٠١٧)م، بأنه صاحب مصطلح السيولة، التي أصدر تحتها سلسلته الشهيرة السيولة، من الحداثة السائلة والثقافة السائلة والحب السائل، والشر السائل والأزمنة السائلة والمراقبة السائلة، وهلم جرا من سيولات باومان المثيرة،...

قراءة المزيد
Loading...